تاريخ أشباح تطارد التاريخ
للبقاء في عالم يعمه الفوضى، قد تحتاج دراسة التاريخ إلى التحول إلى شيء يثير حفيظة العديد من المؤرخين: شكل من السرد الذي يُسيس الحاضر.
في الثالثة والثمانين من عمره، وبينما كانت آلام سرطان الفك تفتك به، استمر سيغموند فرويد في العمل بلا انقطاع من على فراش موته. لم تكن هذه الجهود آخر إسهاماته في مجال التحليل النفسي، ولا كانت مذكرات شخصية، بل كانت وصية فكرية غريبة حملت عنوان "موسى والتوحيد". وقد نُشرت هذه الوصية في صيف عام 1939، حينما كانت ألمانيا النازية تستعد لغزو بولندا، وكأنها محاولة أخيرة من فرويد لمواجهة صخب العالم بصخب فكره.
استلهم فرويد هذا العمل من الاكتشافات الأثرية في تل العمارنة بمصر، ليطرح نظرية مثيرة بأن التوحيد الذي دعا إليه موسى لم يكن سوى امتداد لعبادة إله الشمس المصري، آتون. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد؛ إذ زعم أن اليهود القدماء قتلوا موسى، واستمروا في ممارسة هذا الإيمان التوحيدي لا بدافع عقيدة دينية، بل مدفوعين بشعور غير واعٍ بالذنب الروحي المتأصل.
ومما يسعد فرويد أنه لم يعش ليشهد ردود الفعل الساخرة على نظريته الأخيرة. فقد وصفها ويليام فوكسويل أولبرايت، الذي كان قد أثبت لاحقًا صحة مخطوطات البحر الميت، بأنها تفتقر تمامًا إلى أي منهج تاريخي جاد. أما روان ويليامز، الذي أصبح فيما بعد رئيس أساقفة كانتربري، فقد وصفها بأنها "مؤلمة في سخافتها".
غير أن هذه القصة المثيرة أثرت بعمق على أحد تلاميذ فرويد الروس، وهو إيمانويل فيليكوفيسكي. إذ كان فيليكوفيسكي مفتونًا بـ"موسى والتوحيد"، إلى درجة أنه هجر مشاريعه السابقة، وكرس نفسه في رحلة شاقة وغير مألوفة للعثور على دليل تاريخي يثبت قصة الخروج من مصر.
اعتقد فيليكوفيسكي أنه عثر على ضالته في بردية إيبوير، وهو نص مجزأ يعود إلى الأسرة الثانية عشرة في مصر. كان يرى أن هذا النص يصف واحدة من ضربات موسى العشر. لكن المشكلة كانت أن تاريخ البردية يسبق زمن الخروج بنحو خمسمائة عام. ومع ذلك، لم يثنِ ذلك عزيمته، إذ لجأ إلى حل بسيط على طريقته، وتمامًا كما فعل معلمه فرويد، أعاد تشكيل الماضي ليناسب روايته.
في مقدمة كتابه الصادر عام 1945 بعنوان "أطروحات لإعادة بناء التاريخ القديم"، جادل فيليكوفيسكي بأن "التاريخ المكتوب للعالم القديم قد تم تركيبه بشكل خاطئ، بدون ترتيب زمني دقيق بين تواريخ الشعوب المختلفة". ومن هنا، نصّب نفسه كمصلح للتاريخ، معلنًا أنه سيعيد تنظيم ما وصفه بـ"فوضى القرون والممالك والأشخاص". وبهذه الجرأة، ألغى مئات السنين من التاريخ القديم ليجعل قصة الخروج تتطابق تمامًا مع نص بردية إيبوير.
لكن مصير هذه الرواية التاريخية الزائفة لم يكن أفضل حالًا من مصير نظريات فرويد. فقد قوبلت أفكار فيليكوفيسكي بسخرية حادة من الأكاديميين. ومع ذلك، حظيت آراؤه بقبول وإعجاب لدى شريحة من العامة خارج الأوساط العلمية. وبينما حاولت الجامعات حظر كتبه ومقاطعة ناشريها، وجد فيليكوفيسكي نفسه شخصية ملهمة تُناقش في الأفلام الوثائقية، وبطلًا للجولات النقاشية حتى وفاته في عام 1979.
وعلى الرغم من وفاته، فإن أفكاره ظلت تلهم جمعيات معنية بالتاريخ الزائف في العالم الغربي. ففي إحدى هذه الجمعيات، وهي جمعية إعادة بناء التاريخ البشري والطبيعي في ألمانيا، أخذ مفهوم تعديل التاريخ قفزة جريئة نحو الأمام، كأنما أراد هؤلاء أن يواصلوا مسيرة فيليكوفيسكي في إعادة صياغة الزمن بجرأة لا تخلو من خيال.
في عام 1996، أزاح هيربرت إيليج، محرر مجلة "ZeitenSprung"، الستار عن عمل جريء سيبقى علامة فارقة في مسيرته: "العصور الوسطى المختلقة". لم يكن هذا العمل مجرد محاولة لإعادة ترتيب الزمن، بل كان قفزة جريئة نحو تصورٍ جديد كليًّا للتاريخ. إذ زعم إيليج أن 297 عامًا من التاريخ الوسيط لم تكن سوى اختراع محكم، نسجه الإمبراطور الروماني المقدس أوتو الثالث والبابا سيلفستر الثاني، في مؤامرة مدهشة لإعادة صياغة الزمن ليحكموا في السنة الميمونة 1000. وهكذا، أمروا أديرة القارة بتزوير وثائق تسرد تاريخًا خياليًّا لملوك الكارولينجيين. ولم يكن العام الذي يعيش فيه إيليج، وفقًا لنظريته، 1996 بل 1694!
وقد تولى هانز-أولريش نييميتز، أحد المتحمسين لأفكار إيليج، صياغة مصطلح "الزمن الشبحي" لوصف هذه الفترة الزمنية المختلقة. وفي ورقة بحثية نُشرت عام 1995، حاول نييميتز دعم مزاعم إيليج بمجموعة من الأدلة التي وُصفت بالمشكوك فيها، مشيرًا إلى تناقضات معمارية، وفجوات في الدراسات الشجرية، وكمية كبيرة من الوثائق المزورة. ورغم أن مثل هذه الانتقادات قد تم الرد عليها وتفنيدها بأبحاث دقيقة، إلا أن ما دفع إيليج ونييميتز إلى الشك لم يكن مجرد نقص الأدلة، بل عدم ثقة عميقة بجوهر العمل الأكاديمي التاريخي.
تساءل نييميتز بلهجة تهكمية أمام قرائه: "لماذا لم يلاحظ العلماء 'الأغبياء' هذه الفجوة من قبل؟ لماذا كان يجب أن يأتي شخص غريب ليسأل هذا السؤال؟" كان هذا السؤال يعكس شكوكًا أعمق حول التسلسل الزمني للتاريخ، معتبرًا أن التشكيك فيه أمر محظور وغير قابل للنقاش.
لكن على عكس تأثير أفكار فيليكوفيسكي، لم تحظَ مدرسة إيليج بنفس الزخم. لم تُترجم كتبه قط، وقوبلت نظرياته بالتجاهل أو السخرية. حتى أن أحد النقاد تساءل: "هل يجب أن نلقي بمراجعي التاريخ في السجن؟" مشبهًا قضيته بقضية إنكار الهولوكوست. ورغم كل ذلك، قال إيليج لصحيفة ألمانية: "كنت أعلم منذ البداية ما كنت أفعله لنفسي".
ورغم ضعف تأثيره الأكاديمي، فإن الدافع لمراجعة التاريخ ظل يتزايد بمرور الزمن، مما يطرح تساؤلًا مهمًا: لماذا تبدو هذه الأفكار الغريبة عصية على الموت؟ الحقيقة أن هذه النظريات تثير قضايا جوهرية حول الثقة في المؤسسات الأكاديمية، وحول ميل الناس إلى التشكيك في "الخبراء" والانجذاب إلى سحر المؤامرات والحقائق المخفية. ولكن، الشبح الذي يطارد التأريخ الغربي ليس ذاك الذي تصوره إيليج.
عباءة الموضوعية المشكوك فيها
الشكوك في صحة التسلسل الزمني للتاريخ ليست جديدة. فمنذ القرن السابع عشر، أثيرت تساؤلات جريئة حول مصداقية الوثائق التاريخية. جادل اليسوعيون جان هاردوين ودانيال فان بابنبروك بأن التزوير كان شائعًا جدًا في الأوساط الكنسية في العصور الوسطى، إلى درجة أن جميع السجلات المكتوبة قبل القرن الرابع عشر ينبغي اعتبارها مختلقة من الرهبان المتشددين.
وفي القرن التاسع عشر، ذهب المؤرخ إدوين جونسون إلى ما هو أبعد من ذلك، زاعمًا أن المسيحية بأكملها، بما في ذلك 700 عام من التاريخ الموثق، لم تكن سوى اختراع للرهبان البندكتيين في القرن السادس عشر. أما المستشرق البريطاني فورستر فيتزجيرالد أربوثنوت، فقد اقترح إعادة ضبط الزمن ليبدأ مع حكم الملكة فيكتوريا، معتقدًا أن التاريخ الذي سبق عام 1666 غارق في الفوضى.
وكما أشار المؤرخ توماس توت، فإن السجل التاريخي، خاصة في العصور الوسطى، مليء بالتزوير والتحريف. كان التزوير "أشبه بواجب على الطبقة الكنسية"، حيث قامت الأديرة والنخب الثرية بتزوير آلاف الوثائق لتأكيد عظمة ما اعتقدوه. وهكذا، زعمت جامعة باريس أن شارلمان منحها ميثاقًا، وادعت أكسفورد أن ألفريد العظيم أسسها، بينما نسبت كامبريدج فضل تأسيسها إلى الملك آرثر نفسه!
اليوم، تُعتبر أفكار أمثال هاردوين وجونسون وأربوثنوت وإيليج جزءًا من "النقد المفرط"، وهو اتجاه يبدأ بالشك في كل شيء نتيجة عدم موثوقية الأدلة التاريخية. وكما أوضح كتاب فرنسي في عام 1898، فإن الشك في كل شيء كان الدافع وراء تطوير التاريخ ليصبح علمًا أكثر دقة.
هذه الشكوك المتطرفة، كانت في حقيقتها وقودًا لتطور علم التاريخ إلى مجال أكثر دقة وصرامة. لم يعد التاريخ مجرد حكايات تُروى أو أساطير تُردد، بل أصبح علمًا يعتمد على البحث والتحليل، ويتكئ على خبرة العلماء في دراسة أدلة الماضي. ومن بين أبرز المحطات في هذا التطور كان عمل جان مابيلون في عام 1681، المعنون بـ"De re diplomatica". هذا العمل كان بمثابة ردٍّ حاسم على هاردوين، وقد وضع أسسًا جديدة للنقد النصي، تقنيات لا تزال راسخة في الدراسات التاريخية حتى يومنا هذا. بل إن الجهود العلمية لم تتوقف عند ذلك الحد، ففي عام 2019، جاءت إحدى الدراسات لتسد الفجوات في السجل الشجري، في مواجهة مزاعم مثل تلك التي أطلقها إيليج، الذي رأى في هذه الفجوات دليلاً على مؤامرة طُمست في التاريخ. وكما قال لي ليفي روتش، المؤرخ المتخصص في التزوير: "نحن جميعًا ورثةٌ، بشكل أو بآخر، للإمبريقية التي تبلورت في القرن التاسع عشر".
إن علماء العصور الوسطى اليوم يسترجعون بأذهانهم نشأة مهنتهم، تلك التي ترتبط بمشروع ضخم بدأ عام 1819، وحمل اسم "النصب التذكارية التاريخية الألمانية". هذا المشروع، الذي استدعى مئات العلماء للتنقل بين أديرة أوروبا وقاعات مدنها، كان يهدف إلى فحص السجلات الوسيطة باستخدام أدوات النقد النصي الجديدة آنذاك. وما يزال هذا العمل يمثل مرجعًا محوريًا لأي مؤرخ يدرس 1300 عام من التاريخ الأوروبي. لقد طمح هؤلاء العلماء إلى رفع التاريخ إلى مرتبة العلم، متجردين من العظات الأخلاقية التي طغت على كتابات الماضي. إلا أن هذا التوجه العلمي لم يكن خاليًا من التوترات، كما عبر المؤرخ الإنجليزي توماس هودجكين، الذي شعر بضرورة الدفاع عن رؤيته لتاريخ إيطاليا في وجه تيار النقد الأكاديمي المتشدد. فقد تخيل هؤلاء النقاد يسألونه بحدة: "هل تريد أن تعيد إلى العلم التاريخي تلك المصطلحات اللاهوتية التي طهرناها منه؟"
ولكن، لئن تطهرت الكتابة التاريخية من الأبعاد الغائية واللاهوتية، فإنها لم تتجرد من طابعها السردي. فالتاريخ، في جوهره، يبقى فنًّا من فنون السرد. وفي عام 1819 نفسه، وُلد عملٌ أدبي أثرى هذا السرد التاريخي وأعاد تشكيله: "إيفانهو" للسير والتر سكوت. قد يبدو هذا العمل، للوهلة الأولى، رواية مغامرات رومانسية خيالية تتناول سيدًا ساكسونيًا في خضم أحداث تحيط بشخصيات مثل روبن هود وريتشارد قلب الأسد. لكن الحقيقة أن سكوت أراد أن يدمج بين السرد الأدبي والحقائق التاريخية، ليُثري السجلات الجافة بخيال مبتكر يعيد إحياء الماضي.
كان تأثير "إيفانهو" فوريًّا وعميقًا. فقد وصف ألكسندر بوشكين، المسرحي الروسي، هذا العمل بأنه أثر في كل أرجاء الأدب في عصره. وبفضل هذا التأثير، أصبحت التجربة الإنجليزية مركز حركة استعادة القرون الوسطى، كما أشار الناقد ستيوارت كيلي. ألهمت الرواية بطولات الفروسية والنهضة القوطية التي ميزت القيم الفيكتورية، وجعلت المجتمعات الأنجلوساكسونية تبدو وكأنها جنة اجتماعية، حيث تسود المساواة بين الطبقات ويزدهر التعاون الثقافي. وقد وصفها الناقد جيورجي لوكاش بأنها تصوير لحداثة ترنو إلى الماضي.
غير أن "إيفانهو" لم تكن مجرد عمل أدبي بحت، بل حملت صفات تاريخية زائفة وأعادت تفسير البيانات المحدودة من الماضي، مما جعلها تبدو لكثير من الفيكتوريين بمثابة إعادة بناء حقيقية للحياة اليومية في العصور الوسطى. وقد اعتبروا هذه الروايات وسيلة لرؤية المواقف الداخلية التي يصعب الوصول إليها من خلال السجلات الرسمية وحدها. كما أشارت المؤرخة بيلي ميلمان: "من الصعب تحديد أي من الشكلين المتوازيين للسرد التاريخي يساهم أكثر في تشكيل الآخر، الرواية أم التاريخ المباشر".
أما أنا، فمن عشاق هذا التفاعل العميق بين الرواية التاريخية والبحث العلمي. مكتباتي تضجّ بالكتب عن الجانب المظلم من هذا الزواج بين البحث الموضوعي والسرد المثير: استقصاءات تاريخية كبيرة و"علمية" من العالم القديم إلى الحاضر التي تصف بلا شك تقدم الإنسانية من التخلف "البدائي" إلى الخرافة "الشرقية" إلى المسيحية "المستنيرة" في حاضرنا "المتحضر" (والأوروبي دائمًا كما تصفه الكتب).
وفي أيامنا هذه، تتجلى أمامنا بوضوح حقيقةٌ قد تكون مرة على بعض النفوس، وهي أن تلك الأعمال التي ادّعت العلمية والموضوعية لم تكن في جوهرها سوى أدوات لخدمة مصالح إمبريالية، حتى وإن بدا لمؤلفيها أنهم يتبنون مواقف مهنية محايدة بعيدة عن التحيز. ففي زمانهم، كان هذا القناع من الحياد يوفر غطاءً لإعادة تشكيل الماضي بما يتلاءم مع تطلعاتهم ومشاريعهم. خذ على سبيل المثال التماثيل الكونفدرالية التي نُصبت في الجنوب الأمريكي، والتي لم تكن مجرد نصب تذكارية بل محاولات لإعادة كتابة تاريخ الحرب الأهلية، وتمجيد أسطورة "القضية الضائعة"، تلك الأسطورة التي سعت إلى منح هزيمة الجنوب شيئًا من الكرامة المزيفة. وكذلك الحال مع الكتابات التاريخية الفاشية التي بنيت على أساس من علم التاريخ الزائف في العصر الفيكتوري، حيث فسرت التاريخ من خلال عدسة عنصرية متعمدة، وادعت أن الدول الأوروبية الناشئة هي الوريثة الشرعية للإمبراطوريات العريقة. وتزامنت هذه المشاريع مع محاولات أخرى أقل شهرة لكنها ليست أقل خطورة، مثل جهود إيبين هورشفورد لتزوير حقيقة هبوط القبطان ليف إريكسون في أمريكا، مدفوعًا بإيمانه بتفوق العرق الأنجلوساكسوني.
وربما يسهل علينا أن نرى في هذه التماثيل والأساطير التاريخية مجرد إساءة للحقائق، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فتطور العلوم اللغوية، التي تعد من الأدوات الأساسية في تحليل المصادر التاريخية، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بنشأة العنصرية العلمية. وينطبق الأمر ذاته على تخصصات فرعية مثل الأنثروبولوجيا، وعلم مقارنة الأديان، وحتى علم الآثار. وكما أشار المؤرخ آدم ستاوت في كتابه "خلق ما قبل التاريخ"، فإن "حقائق" الماضي ليست كما يظن البعض قيودًا موضوعية على السرد، بل هي مصنوعات بشرية لا تكتسب معناها إلا من خلال التفسير. وهو يؤكد أن تحديد ما هو مهم في الماضي هو بحد ذاته عملية سياسية.
حتى المشروع الذي أطلق عليه "النصب التذكارية"، والذي يعتبره البعض الأساس للكتابة التاريخية العلمية، لم يكن بريئًا من النزعات القومية. فقد وُجّه علماء هذا المشروع للبحث عن التاريخ الألماني في وقت لم تكن فيه ألمانيا موحدة بعد. وكان البحث في سجلات فرنسا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا مباحًا، بشرط أن تدعم هذه السجلات الأساطير التي تعزز الهوية الألمانية. وكما كتب المؤرخ باتريك غاري في كتابه "أسطورة الأمم"، فإن هذا المشروع "وضع المعايير التي من خلالها بدأت ألمانيا البحث عن ماضيها"، بل وتنبأ بمستقبلها، حيث أصبحت أسطورة "أوروبا الألمانية" أساسًا للعنف التوسعي في الحربين العالميتين، وأساسًا للوهم الآري من لومباردي إلى لندن.
ولا تختلف المشاريع القومية الأخرى كثيرًا عن هذا النهج، سواء تناولت أساطير البلقان، أو النصوص الدينية الروسية، أو مستوطنات العصر الحجري الحديث في آسيا الوسطى. فقد أسهمت هذه المشاريع في ترسيخ الأفكار العرقية وتعزيز النزعات القومية. ولأكثر من نصف قرن، كانت هذه العلوم الزائفة تشكل الطريقة التي يُفهم بها التاريخ، حتى في ظل الادعاء المستمر بالموضوعية العلمية.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، كان العديد من المؤرخين يدركون هذه الحقيقة. وقد أصبحت الأساليب النقدية جزءًا أساسيًا من تدريب المؤرخين، كما أشار لويس دين فالنسيا، أستاذ التاريخ بجامعة تكساس. فهو يقول: "لفهم التاريخ، يجب أن تفهم كيف تم سرده." ولكن، ما يظل غائبًا هو تدريب الناس العاديين على النظر إلى التاريخ بهذه الطريقة النقدية.
وفي حين أن أعمال تشارلز ديكنز تسهم في تشكيل تصوراتنا عن العصر الفيكتوري، فإن الأعمال التاريخية الشعبية التي بيعت بكثافة في زمانه كان لها دور أكبر في صياغة صورة الماضي. وهذه الروايات الشعبية لم تكتفِ بوصف الماضي بل أعادت تشكيله، مما أثر على الطريقة التي يتذكر بها الناس تلك العصور، وأعاد تشكيل تصوراتهم عن المجتمعات السابقة.
واليوم، هذه الروايات ليست مجرد حكايات زائفة؛ إنها جزء من ثقافتنا، تساهم في تشكيل رؤيتنا لأنفسنا وعلاقتنا بالآخرين. لكن بدون سياق نقدي، قد نفشل في إدراك مدى خطأ "التاريخ". وهكذا، يصبح الشك الجذري، الذي يبدو للبعض غريبًا، وسيلة ضرورية لفهم هذا التاريخ الملتبس.
التاريخ كما كان في جوهره
تطل علينا في كل يوم نظريات جديدة تهز أركان التاريخ المتعارف عليه، وكأننا على موعد دائم مع طوفان من الأفكار التي تتحدى الثوابت الراسخة. يكفي أن تلج إلى شبكة الإنترنت، تلك التي أصبحت مسرحًا واسعًا للتجارب الفكرية والجرأة المطلقة، لتصادف من يدّعي ما لا يقبله عقل ولا يقره منطق. على منصة تيك توك، تظهر محرضة تُدعى @momillennial_، ساعية وراء لحظات عابرة من الشهرة، بزعمها أن تاريخ روما بأسره ليس إلا نسج خيال محاكم التفتيش الإسبانية. ولم تكتفِ بهذا الادعاء الغريب، بل تجاوزته لتزعم أن اسم يسوع المسيح يمكن ترجمته إلى عبارة شديدة الغرابة والابتذال "معالج البظر".
وفي أركان أخرى من هذا الفضاء الإلكتروني، نجد موقع "The Unz Review"، حيث تجتمع نظريات المؤامرة تحت أقسام خاصة تستعرض موضوعات شتى، مثل التطعيم والإيدز وعلاقات اليهود بالنازيين وإسرائيل. وفي هذا الموقع، يظهر كاتب يُلقب نفسه بـ"مراجع الألفية الأولى"، زاعمًا أن التاريخ الروماني وتاريخ العصور الوسطى ليسا إلا اختراعًا دبرته الباباوات اللاتينية لانتزاع الحق الشرعي من القسطنطينية. يستند هذا الكاتب إلى نظريات زمن وهمي، ويفسح المجال لقراءة مغلوطة ومتحيزة للنقد الأدبي وأدبيات مناهضة الاستعمار، محرفًا الانتقادات الجادة للمؤرخين ليزرع بذور الشك في الحقائق التاريخية التي استقرت في الوعي الجمعي.
وفي مقدمة لمجموعة من المقالات التي تناقش انتشار "التاريخ البديل"، يشير المؤرخ فالنسيا إلى أن الاتجاه النقدي في التاريخ، الذي برز منذ سبعينيات القرن الماضي، قد يكون أحد أسباب هذه الأزمة. يقول إن "الفكر ما بعد الحداثي والمساواة الزائفة" أفضيا إلى "أزمة من التواريخ اللانهائية"، حيث أصبح الزمن نفسه مشوشًا، لا هو دوري ولا تقدمي، بل محطّم إلى خطوط متنافسة ومتشعبة.
وقد تكون الأدوات التي طورها المؤرخون لفصل تخصصهم عن تجاوزات الماضي الفيكتوري قد أوقعتهم في متاهة، بينما يحاول جيوش من الهواة والمتحمسين غير الأكاديميين استعادة زمام المبادرة. وإذا ألقينا نظرة عابرة على منصات التواصل الاجتماعي، مثل تويتر (بصورته الجديدة)، نجد أنفسنا محاطين بحسابات تعيد بث أفكار تعود إلى التأريخ الفيكتوري في أسوأ صوره. فمن الحنين المناهض للحداثة إلى النازية الصريحة، كلها تعكس انحرافات خطيرة عن الموضوعية التاريخية، وتمثل محاولة لإعادة تدوير ممارسات تأريخية بالية.
وكما كتب ليلاند ريناتو غريغولي، محرر "Perspectives on History"، فإن هذا الحنين إلى "ماضٍ لم يكن موجودًا قط"، المنفصل عن الحقائق التاريخية، بات ظاهرة طاغية في الذاكرة الحديثة. ويبدو أن هذا النوع من التنقيح التاريخي يتسلل بخطى ثابتة إلى التيار السائد، معيدًا إنتاج وهم الماضي بتناقضاته الزمانية والسخرية المتعمدة.
ولا يقتصر الأمر على الهواة في هذا الإحياء المريب للتأريخ الفيكتوري، بل إن بعض العلوم الحديثة، مثل علم الجينومات الأثرية، تسهم بدورها في إعادة الحياة لأفكار القرن التاسع عشر المتعلقة بتجانس المجتمعات القديمة. تلك الأفكار التي وجد فيها النازيون أساسًا لنظرياتهم العنصرية. وكما أشار عالم الآثار مارتن فورهولت في عام 2020، فإننا نشهد تراجعًا حقيقيًا عن مفاهيم كان يُعتقد أنها انتهت، مثل الثقافات الثابتة وتبييض الهوية الاجتماعية، بسبب التأثير الكبير لدراسات الحمض النووي القديمة.
وفي سياق آخر، وبينما يشتد رد الفعل الأكاديمي المحافظ على الدراسات المناهضة للاستعمار، تظهر استطلاعات الرأي أن ثلث الجمهور البريطاني، وأرقامًا مشابهة في فرنسا وهولندا واليابان، يعتقدون أن الدول التي كانت تحت الاستعمار كانت في حال أفضل وهي تحت هذا القمع.
وفي بقاع أخرى من العالم، خارج الغرب الذي يدّعي التفوق الفكري، نجد أن أدوات نقد التاريخ الفيكتوري تُسخر لبناء أساطير جديدة من اليقين الزائف. في الهند، على سبيل المثال، تحت قيادة ناريندرا مودي، يُعاد توظيف نقد ما بعد الاستعمار لخدمة رؤية هندوسية تمحو قرونًا من التنوع الديني. وفي الصين، نجد أن هذه الأدوات تُستخدم لتعزيز نظريات المؤامرة التاريخية، لتأكيد استثنائية الأمة الصينية. وحتى في إسرائيل، تُحوَّل مبادئ ما بعد الاستعمار إلى ذرائع لتبرير حروب الإبادة الجماعية، كما نراه في غزة.
وهكذا، فإن موجة التنقيح التاريخي الجديدة تعيق قدرتنا على فهم حاضرنا بدقة. فوسط الكم الهائل من الصور والمعلومات القادمة من أماكن مثل غزة وأوكرانيا، تختلط الدعاية بالتأريخ الزائف والسياسة، إلى حد يصعب فيه التفريق بين الحقيقة والدعاية. فنجد أن البيانات والنقاط التحليلية تتعايش جنبًا إلى جنب مع التاريخ الحي الذي يُصنع ويُشاهد في نفس اللحظة. هذه الفوضى النصية جعلت السعي وراء الموضوعية القائمة على الأدلة أمرًا شبه مستحيل. كيف يمكننا أن نحدد ما هو تافه وما هو جوهري؟ دون أن نغفل عن الطبيعة العابرة للإنترنت: التغريدات المحذوفة، المحتويات التى ينشأها الذكاء الإصطناعي، ومقاطع الفيديو التي توثق جرائم الحرب التي تضيع تحت وطأة الرقابة المجهولة.
في هذا العصر الذي نعيش فيه، حيث يتداخل الحاضر بالماضي في مشهد يعج بالفوضى، نجد أنفسنا أشبه بذلك الباحث في العصور الوسطى، الذي يغوص في نصوص متقطعة تحفها التزييفات والضلالات، محاولًا أن يستخلص منها معنىً ما. أمام هذا الواقع المربك، قد نجد أنفسنا ننزلق إلى نظريات مؤامرة الزمن الشبحي، تلك التي تزرع الشك في كل زاوية، حيث يبدو التاريخ غير نقي بما يكفي لإرضاء حاجتنا الملحة إلى اليقين. ومن هنا، تُخترع بدائل زائفة لملء الفراغ الذي يخلفه غياب الحقيقة الواضحة.
ولكن لكي يستمر علم التاريخ في الحياة وسط هذه التغيرات المتقلبة، قد يكون عليه أن يعيد تشكيل نفسه. يرى غريغولي أن "التاريخ إذا لم يكسر الحدود التي وُضعت له في القرن التاسع عشر، فإنه سيختفي كعلم". لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي هذه الحدود التي يجب كسرها؟ هل ينبغي للتاريخ أن يختار طريق الموضوعية الجافة؟ أم أن عليه أن يجازف بخلق تواريخ بديلة عبر تبني موقف نقدي أشد حدة؟ ربما لا تكمن الإجابة في أي من الاتجاهين. فنجاح نظريات المؤامرة التاريخية في عصرنا قد يكون مؤشرًا إلى أن الحل يكمن في مكان آخر: في توجيه قوة التاريخ كفن من فنون السرد، يُسيِّس الحاضر ليحفظ معناه.
ومن أجل تحقيق هذا التحول، قد يحتاج المؤرخون إلى إحياء ذلك النوع من التاريخ الذي كان مكبوتًا في زمن الفيكتوريين؛ التاريخ الذي لا يُعامل كتوثيق بارد للأحداث، بل يُقدَّر كنوع من الوحي المقدس، الذي يحمل معاني أعمق وأكثر ارتباطًا بروح الإنسان. ففي تأملاته حول "تاريخ ما قبل التاريخ"، يشير المؤرخ الفرنسي فرانسوا هارتوغ إلى أن جذور التاريخ الأولى كانت تنبثق من أعمال الكهنة والأنبياء. كان العراف في حضارة بلاد ما بين النهرين، على سبيل المثال، يسعى إلى جمع كل الأمثلة المتاحة، موجهًا بمثالية شمولية بحثًا عن السوابق. وهكذا، تشارك العراف والمؤرخ في فضاء فكري مشترك، حيث كانا يُقرآن الماضي والمستقبل في ضوء واحد.
وليس من المستغرب أن نجد العرافة والتأريخ يتداخلان في جذورهما الأولى. فقبل ظهور المنهج التاريخي الحديث، كانت هناك مدرسة تأريخية بارزة تقوم على مفهوم العناية الإلهية. كان المؤرخ يرى يد الله المحركة لأحداث التاريخ، صعودًا وسقوطًا، كإطار يفسر به كل شيء. ورغم أن الإيمان الإلهي قد غاب عن كثير من الأوساط الأكاديمية، إلا أن هذه الغائية الإلهية لا تزال حاضرة في التأريخ السياسي كما تظهر في أعمال هيغل وماركس. فحتى عندما نعكس هذه الغائية، نظل قادرين على استنباط نتائج حتمية من أفعال الماضي.
إن القوة النبوئية للتاريخ تكمن في طابعه الرومانسي أكثر من دقته في نقل الحقائق. وقد أدرك ذلك رواد التأريخ الحديث، حتى وإن غاب عن خلفائهم. فقد كان ليوبولد فون رانكه، أحد أعلام التأريخ القائم على الأدلة، يؤمن بأن على المؤرخين أن يصفوا الماضي "كما كان في جوهره"، وليس "كما كان في الواقع" كما يُترجم غالبًا. وكما قال والتر بنيامين: "إن السيطرة على ذاكرة تومض في لحظة خطر، هي السبيل لتحديد ما هو ماضٍ".
نحن الآن في لحظة خطرة، حيث يبدو تماسكنا مع الماضي مهددًا أكثر من أي وقت مضى. وإذا كان التاريخ عرافًا كما يرى البعض، فإن علينا أن نكون حذرين بشأن المستقبل الذي نتوقعه. ولعل أبرز ما يثير القلق في هذا السياق هو الفلسفات التقليدية ذات الطابع اليميني المتطرف، تلك التي تتخيل التاريخ كدورات كبرى ليست تقدمًا بل انحدارًا. فهؤلاء ينظرون إلى الحداثة كخطأ ينبغي تصحيحه، ويدعون إلى استعادة قيم قديمة ونقية، إلى ماضٍ مثالي لم يوجد قط. ومن هنا، نجد فلسفات مثل تلك التي صاغها جوليوس إيفولا، حيث أثار حماسة أتباعه بدعواته إلى نهاية العالم وانهيار المجتمع، بهدف جلب الانهيار النهائي للمجتمع والدخول في نهاية العصر المظلم، كالي يوغا... هذه الأفكار ليست مجرد ترف فكري، بل تشكل خطرًا حقيقيًا على الحاضر والمستقبل. فهي تقف خلف أعمال عنف كالتفجيرات في محطات القطارات، والقتل الجماعي، وخطط اختطاف قادة سياسيين، كما حدث مع حاكمة ولاية ميشيغان.
إن هذه الجماعات، في قدرتها على بناء عوالم خيالية موازية، تدرك جيدًا العلاقة الوثيقة بين الخيال والتاريخ. فليس من المستغرب أن تكون مغرمة بالخيال، لأنها تستخدمه لبناء تاريخ زائف، تُعيد تشكيله ليتناسب مع أهدافها ورؤيتها للعالم.
في زمن مضى، كان الصراع بين الأفكار يتخذ طابعًا أشد تنوعًا، حيث كان اليسار يواجه سرديات اليمين بخيال لا يقل جرأة، متجسدًا في دعاوى التقدمية والتحرر التي سعى المنظرون الماركسيون والمؤرخون التقدميون إلى ترسيخها. لكن المشهد اليوم يبدو وقد انحسر هذا التنافس، لتحل محله موجة جديدة من الثقة العمياء بالعلم، وكأننا نلتمس فيه خلاصًا من حيرة التاريخ. حتى المؤرخون الوسطيون، الذين كانوا يومًا يتشبثون بالتفاؤل المشرق لعصر التسعينيات، باتوا يعيدون النظر في قناعاتهم القديمة. ففي ذلك الزمن، كان يُقال إن "قوس التاريخ ينحني نحو التقدم"، حتى وإن لم يصل إلى نهايته بعد. ومع ذلك، يأتي مشروع مثل 1619 ليكسر هذا الجمود، وهو مشروع يُعد واحدًا من أبرز المراجعات التقدمية للسرد التاريخي الأمريكي في العقود الأخيرة. لكن المفارقة أن هذا المشروع لم يأتِ من المؤرخين، بل من الصحفيين، وكأن المتخصصين قد تخلوا عن سيطرتهم على تشكيل الوعي العام بالتاريخ، ليتركوا الساحة مفتوحة للهواة.
غير أن استيلاء الهواة على زمام السرد ليس بالضرورة أمرًا يدعو إلى القلق. فالهواة، كما يشير التاريخ نفسه، كانوا في الأصل عماد التخصصات، قبل أن يعلمنا الفيكتوريون أن ننظر إليهم باستخفاف. فكلمة "هاوٍ"، التي كانت يومًا تعني ببساطة محبًا لشيء ما، لم تحمل دلالة سلبية إلا بعد القرن التاسع عشر، حينما رُبطت بالسطحية والافتقار إلى العمق. واليوم، قد يكون من الأجدر أن نتساءل: إذا لم يكن المؤرخون هم من يؤطرون التاريخ لخدمة الحاضر، أفليس من الأفضل لهم أن يكتفوا بدور الباحثين في الأدلة المتناثرة، تاركين مهمة السرد لأولئك الذين يجيدون خلق الحكايات، سواء كانوا شعراء، أو حتى مجانين؟ أو ربما، في زمننا هذا، للمحتالين، والسياسيين، والاقتصاديين؟
لكن هل يمكننا حقًا الوثوق بهذا المسار؟ لا أظن ذلك. كما يقول فالنسيا في إحدى كتاباته قبل سنوات: "كلما تعاملنا مع التاريخ على أنه حقيقة موضوعية معقمة، فقدنا المزيد من الطلاب لصالح اليمين المتطرف". وإذا كانت أبراج العاج توفر للتاريخ أمانًا نظريًا، فإننا نحن من نقف خارجها، نواجه ذلك الماضي الوهمي الذي يستحضره مؤرخو الزيف، مدفوعين بأجنداتهم الخاصة والخبيثة. وربما لا تكمن حاجتنا الحقيقية في المزيد من المؤرخين، بقدر ما نحتاج إلى قلة من أولئك القادرين على طرد الأرواح الشريرة التي تسكن سرديات الزيف.
مترجم من مجلة noemamag