سر الفهم العميق: كيف نفهم أى شئ؟
دليل مختصر للعادات التي تفرّق بين الفهم العميق والمعرفة السطحية، وكيف تكتسبها.
الذكاء الحقيقي لا يقتصر على سرعة الفهم أو قوة الذاكرة، بل يقوم أساسًا على القدرة على التعمق في الفهم، والابتعاد عن الاكتفاء بالتفسيرات السطحية. في هذا المقال، يستعرض الكاتب ورجل الأعمال نبيل سوريتشي كيف أن العقول اللامعة في التاريخ لم تُكَوِّن أفكارها بمجرد قبول الجواب الأول، بل اعتادت النظر إلى الأمور من زوايا متعددة، وحرصت على تجنب خداع النفس، ولم تخش أن تبدو جاهلة أو بلهاء أمام الآخرين، ما دامت تسعى للحقيقة.
أولاً
كان أذكى من قابلته في حياتي يملك عادة عجيبة لم أنتبه إليها إلا في سنوات مراهقتي، لكنها ظلت عالقة في ذهني لأنها كانت لافتة للنظر. فكلما نجح في حل مسألة رياضية أو إثبات نظرية علمية، لم يكن يكتفي بالحل، بل يعود إلى بداية المسألة وكأن شيئًا لم يحدث، ويبدأ مجددًا في الوصول إلى النتيجة من طريق جديد. كان يقضي في هذا جهدًا ووقتًا، رغم أنه قد توصّل للحل مسبقًا.
أما أنا، فكنت من طراز مختلف. ما إن أصل إلى الجواب حتى أضع القلم جانبًا، وأقول لنفسي: "هذا يكفي!" لم أكن أعود للمسألة مرة أخرى، فقد كنت أطمئن إلى النتيجة من الوهلة الأولى، وكأنها لا تحتاج إلى إعادة نظر.
غير أن صديقي لم يكن يقبل بالرضا السريع. كان من خلال إعادة المحاولة والتفكير بطرق مختلفة، يفتح أمام نفسه أبوابًا لفهم أعمق، ويرى ما لا أراه أنا. لم يكن يكتفي بالسطح، بل كان يغوص إلى العمق، حتى يصل إلى جوهر الحقيقة.
وهكذا تعلمت أن ما يسمى "الذكاء" ليس مجرد سرعة في الفهم أو حدة في الذهن، بل يرتكز على صفات أخرى لا تقل أهمية، مثل الصدق مع النفس، والحرص على الفهم النزيه، والشجاعة في طرح الأسئلة، والاستعداد للسير في الطريق الطويل من أجل المعرفة.
فالذكي، حقًا، لا يرضى بجواب لا يفهمه، ولا يقبل رأيًا لا يستوعبه، حتى لو وافقه الناس، أو دعمه المجتمع، أو أثنت عليه الكتب. لا يرتاح إلا إذا اقتنع قلبه وعقله معًا.
والمثير في الأمر أن هذه الصفات – كالصدق، والنزاهة، والشجاعة المعرفية – ليست قدرات يولد بها الإنسان، كأنها هبة لا تُكتسب، بل هي أشبه بالعادات أو المهارات التي يمكن تعلّمها والتدرّب عليها، تمامًا كما يتعلّم الإنسان ركوب الدراجة أو إتقان الحرفة.
وقد رأيت ذلك بأم عيني: لم يكن الأذكياء الذين عرفتهم متشابهين في أدواتهم الذهنية. فبعضهم سريع البديهة، يقرأ بسرعة ويفكر بلمح البصر، وبعضهم بطيء الحركة، يسير خطوة بخطوة. ومع ذلك، اتفقوا في شيء واحد: أسلوب التفكير. كان لديهم جميعًا عادات عقلية متينة، يمكن لأي شخص أن يتعلّمها إذا أراد أن يُحسّن طريقة فهمه للعالم.
وإذا أردنا أن نلخّص هذا كله في فكرة واحدة، فهي أن الذكاء ليس شيئًا جامدًا موروثًا لا يتغيّر، بل هو صفة نامية تتطور مع الممارسة، وتزداد بقدر ما يدرب الإنسان نفسه على التأمل والتفكير. فالذكاء أشبه بعضلة تقوى بالتمرين، لا بكنز لا يزيد ولا ينقص.
ثانيًا
تلك السمة الفريدة التي تجعل الإنسان الذكي لا يرضى بإجابة ناقصة أو مبهمة، ولا يتوقف عند حدود لم يُدركها تمامًا، تستحق أن نتأملها جيدًا، ونُمعن النظر في مكوّناتها.
أهم ما في هذه السمة أنها تحتاج إلى طاقة داخلية عالية. فالتفكير العميق ليس أمرًا يسيرًا، بل هو جهد متعب لا يُقدِم عليه إلا من تهيأ للصبر، واستعد لبذل الجهد الفكري. والنفس بطبعها تميل إلى الراحة، فحين تجد جوابًا يبدو معقولًا، تميل إلى الاكتفاء به، وتتجاهل الثغرات الصغيرة التي قد تُحيط بالفكرة ولا يراها إلا من اعتاد التعمّق والتدقيق.
وفي كثير من الأحيان، يُمارس الإنسان على نفسه نوعًا من الخداع العقلي؛ فقد يظن أنه فهم أمرًا ما، وهو في الحقيقة لم يفهمه إلا على نحو سطحي. وتمرّ عليه بعض المسائل فيظنها واضحة، مع أنه لم يلمس منها إلا ظاهرها، دون أن يتغلغل إلى أعماقها. ولهذا، فمعرفة الإنسان لمدى فهمه الحقيقي لأي شيء ليست بالأمر السهل، بل تتطلب منه أن يُهاجم فكرته من أكثر من زاوية، ويختبرها كما يختبر الجندي سلاحه قبل دخوله إلى ساحة القتال.
وليس كل الناس يُقدِمون على هذا النوع من التحدي الذهني. بل لا يفعل ذلك إلا من يمتلك دافعًا ذاتيًّا قويًّا؛ أي من يبحث عن الحقيقة لا حبًّا في الشهرة ولا انتظارًا للثناء، بل لأنه يُريد أن يعرف. فطريق المعرفة صعب، ومحطّاته كثيرة، وأغلب الناس يتوقفون عند أول جواب يُرضيهم، دون أن يشعروا بأنهم قد تركوا لُبّ المسألة مدفونًا في الأعماق.
الفيزيائي الشهير والحائز على جائزة نوبل، ويليام شوكلي، كان من أكثر من تحدّث عن هذه الفكرة. كان شديد الإعجاب بمصطلح يسمّيه "الإرادة على التفكير"، وهي تعني أن الرغبة في الفهم الصادق لا تأتي فقط من امتلاك الوسائل، بل من الحافز العميق داخل النفس. كان يرى أن:
ما يُحرّك المفكر الحقيقي لا يقتصر على امتلاك أدوات المعرفة، بل ينبع من رغبة داخلية قوية، من شغف لا يخبو، ومن تصميم على اقتحام المجهول مهما كان متعبًا أو غامضًا.
وهذه الفكرة لم تكن من ابتكار شوكلي وحده، بل اعترف بأنه استلهمها من الفيزيائي الكبير إنريكو فيرمي، أحد روّاد علم الفيزياء النووية في القرن العشرين. وقد كانت عبارة "الإرادة على التفكير" ذات وقعٍ خاص في نفس شوكلي، حتى إنه عدّها من أصدق ما قيل في وصف طبيعة العقل المفكر. كتب عنها في أحد كتبه قائلاً: "في هذه الكلمات الأربع، لخّص فيرمي فكرة شديدة العمق: أن المفكر، مهما كان بارعًا، سيظل مترددًا في الانخراط في التفكير الدقيق المتعب إذا لم يكن مؤمنًا في قرارة نفسه بأن ما سيخرج به من نتائج سيكون جديرًا بهذا الجهد."
ولهذا كان يرى أن الانضباط العقلي، أي التزام الإنسان بالتركيز والمثابرة في التفكير، ليس مجرد صفة مؤقتة تظهر وقت الحاجة، بل هو ضرورة تُرافق الباحث الجاد طوال حياته.
ليس الجهد البدني وحده هو ما يُطلب من طالب العلم والفهم، بل لا بد أن يمتلك الإنسان قدرة داخلية على تحفيز نفسه، أي أن يُشعل الهمة في داخله ليستمر في التفكير العميق في مسألة من المسائل، دون أن يشعر بالملل أو التعب. وهذا يعني، في حقيقته، أن الشخص لا يحتمل أن يظل في حالة من عدم الفهم، أو أن يدَع خطأً فكريًّا دون تصحيح. بل إن هذا النقص يؤلمه، ويجعله غير مرتاح، فيدفعه للبحث والعمل حتى يتبيّن له وجه الحقيقة ويصل إلى الرضا العقلي.
وهذه صفة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لكل من أراد أن يسلك طريق الفهم الحقيقي. وهي، في جوهرها، ليست فقط خُلقًا نبيلًا، بل عادة ذهنية مستمرة، أو حتى ميل لا يمكن مقاومته، يمنع الإنسان من خداع نفسه. فصاحب هذه الصفة لا يقبل أن يطمئن إلى فكرة لم يفهمها تمامًا، ولا يرضى أن يقتنع بشيء لا يرى وضوحه بعقله وقلبه معًا.
ولهذا، لم يكن غريبًا أن يقول عالم الفيزياء النظري الشهير ريتشارد فاينمان، الذي كان من أعلم الناس بخبايا العلم:”القاعدة الأولى في العلم هي ألّا تخدع نفسك، وأنت أسهل شخص يمكن خداعه.”
فمن السهل جدًّا أن يُزيّن الإنسان لنفسه أنه قد فهم، بينما هو في الحقيقة لم يجاوز سطح المسألة. ذلك لأن لا أحد يجبره على الصدق إلا ضميره، ولا رقيب عليه في هذا سوى صراحته مع نفسه. وحده هو من يستطيع أن يسأل نفسه السؤال الصعب:
"هل أفهم هذا حقًّا؟"
ويُعيد طرحه مرارًا، بلا كلل، ولا يقبل بأي إجابة حتى يطمئن أنه فهم.
ولذلك، كانت الكتابة من أهم الوسائل في هذا الباب. فهي لا تُعد تمرينًا شكليًّا ولا مجرّد وسيلة للتعبير، بل هي أداة لاختبار الفهم. فعندما يشرع الإنسان في كتابة فكرة، يتبين له هل فهمها على الحقيقة أم لا. فإذا لم تكن الفكرة واضحة في ذهنه، خرجت كتابته مشوشة، مضطربة، تفضح نقص الفهم. أما إن كان قد استوعبها جيدًا، انطلقت الكلمات منه واضحة مرتبة، كأنها خرجت من عقله كما تخرج الثمرة الناضجة من غصنها. فالكتابة، بهذا المعنى، تُجبر العقل على الوضوح، وتكشف وهم الفهم إن وُجد.
ثالثًا
كان الفيزيائي العظيم مايكل فاراداي، لا يثق بأي معلومة أو نظرية حتى يُثبتها بنفسه عن طريق التجربة، مهما بدت مملة أو تافهة في ظاهرها.
فهو لم يكن يكتفي بما يسمعه أو يقرؤه، بل كان يرى أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب إلا عن طريق العمل اليدوي والملاحظة المباشرة. فحين يقرأ عن تجربة علمية أجراها غيره، لا يهدأ له بال حتى يُعيد تنفيذها بنفسه، بل كثيرًا ما كان يُضيف إليها ويُطوّرها، حتى يتأكد أنه فهمها عن قناعة، لا لمجرد ثقته بكلام غيره.
وكان فاراداي يعتبر هذا الأمر أكثر من مجرد عادة، بل هو نهج في الحياة، وطريق لإثبات "ملكيته" للفكرة، كما كان يقول. أي أنه لا يرضى أن تكون المعرفة مجرد شيء سمعه من آخرين، بل يجب أن تصبح جزءًا من تجربته الشخصية.
ومن الطريف أنه، في إحدى تجاربه الأولى، جمع ما استطاع من نقود، واشترى سبع قطع من النحاس، وسبع أقراص من الزنك، وأوراقًا غُمست في ماء مالح، وصنع منها بطارية بسيطة. ثم ثبّت الأسلاك، وغمسها في محلول يُعرف باسم ملح إبسوم (وهو نوع من الأملاح يُستخدم في التجارب الكيميائية، واسمه العلمي "كبريتات المغنيسيوم")، وراح يراقب النتيجة بعين المتأمل. لم تكن التجربة معقدة، لكنها كانت تعني له الكثير؛ لأنها كانت دليله الشخصي على أن ما قرأه ليس مجرد نظريات، بل واقع يمكن أن يُشاهده ويُثبته بنفسه.
إن الفهم الذي يعتمد على الكلمات وحدها لا يدوم طويلاً، بل سرعان ما يتلاشى إذا لم يرتبط بتجربة حسية أو صورة مرئية أو تصور ذهني واضح. فعندما يتمكن الإنسان من تخيّل الشيء وكأنه مجسّم أمامه، يرى أبعاده الثلاثة ويتحرك به في خياله، يصبح هذا التصور كأنه أداة يُمسك بها الفكرة ويُجري عليها اختبارات ذهنية، كما لو كانت بين يديه. وهذا النوع من الفهم يكون أكثر رسوخًا وثباتًا، لأنه يرتبط بالحواس، ويدخل في إطار يمكن تصوره كحدث قابل للوقوع.
ولهذا السبب، لم يكن النبي ﷺ يكتفي بطرح المبادئ المجردة بلغة نظرية، بل كان يُقرّب المعاني إلى القلوب بضرب الأمثال، وسرد القصص، واختيار الصور التي تعلق بالذهن، وتستقر في الفؤاد. فقد كان إذا أراد ترسيخ معنى كبير، جعله في صورة بسيطة قريبة، يفهمها الراعي كما يفهمها العالم. تأمل مثلًا قوله ﷺ:
"جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"
هذا المشهد يبقى حيًا في النفس، مؤثرًا، لا يُنسى. ولو قيل بدلًا منه: "إن رحمة الله وسعت كل شيء" لظل المعنى مجردًا، لا يتحرك في الخيال، ولا يهزّ المشاعر بنفس القوة.
وقد كانت هذه القدرة الحسية حاضرة عند فاراداي بوضوح لا يخفى، كما ورد في أحد الكتب التي تناولت سيرته. وكان السبب في ذلك، كما قيل هناك، أمرًا طريفًا: أن فاراداي لم يكن بارعًا في الرياضيات، أي لم يكن قويًّا في استخدام المعادلات الحسابية المعقدة، ولهذا كان يعوّض عن ذلك بالتجربة الحسية، فيُجري التجارب بنفسه حتى يفهم ما عجز عن إدراكه بالنظريات وحدها. كان يرى العالم بعينيه ويديه، لا بأرقام على الورق، بخلاف علماء فرنسيين مثل "أمبير"، الذين اعتمدوا على الفهم النظري الخالص، أي الذي يقوم على الحسابات وحدها دون ملامسة للواقع.
لكن هذا الحدس الحسي، أي ذلك الإحساس الداخلي الذي اكتسبه فاراداي من كثرة التجارب والتخيل، هو الذي قاده إلى اكتشافات عظيمة، تُعد من أبرز ما أنجزه العلم في تاريخه.
فرغم إعجابه الكبير بعمل أمبير، لم يكن فاراداي يقلّده في كل شيء، بل سار في طريق خاص به، كان أقرب إلى التأمل العميق في الطبيعة منه إلى مجرد الحسابات. فبينما فسّر أمبير حركة الإبرة المغناطيسية بجوار سلك كهربائي على أنها نتيجة قوى جذب ودفع بين الإبرة والسلك، لم يقتنع فاراداي بهذا التفسير. شعر بأن هناك شيئًا ناقصًا، أو أن الشرح مقلوب. فقد كان يظن أن السلك لا يؤثر في الإبرة مباشرة، بل يُولّد قوة دائرية في الفراغ من حوله، وأن هذه القوة غير المرئية هي السبب في كل ما يحدث بعد ذلك.
وقد جسّد هذا الظن في تجربة عبقرية. اصطحب معه "جورج"، وهو ابن شقيقة زوجته، وكان فتى في الرابعة عشرة من عمره، إلى المختبر. وهناك، غرس مغناطيسًا من الحديد في شمع ساخن داخل إناء، حتى إذا جمد الشمع وثبّت المغناطيس في مكانه، صبّ فوقه الزئبق، وهو سائل معدني لامع يُستخدم في التجارب، بحيث لم يظهر من المغناطيس إلا قمته. ثم علّق سلكًا صغيرًا بحيث يلامس الزئبق من طرفه، ووصل طرفه الآخر ببطارية. وما إن اكتمل مرور الكهرباء حتى بدأ السلك يدور بسرعة حول المغناطيس، في حركة دائرية تشبه الحلقة، وكأن فاراداي قد أطلق طاقة خفية في المكان!
وهذه القدرة على توليد أمثلة من هذا النوع – سواء كانت تجارب في المختبر أو تصورات في الذهن – هي من أقوى وسائل الفهم العميق. فمن شاهد في الآونة الأخيرة نموذجًا مرئيًا لفكرة "حقيبة الكلمات" في مجال الذكاء الصناعي – والمقصود بها تمثيل النصوص بلغة الحاسوب بطريقة تُسهّل عليه معالجتها – سيدرك المقصود هنا. فمثل هذه الأفكار عندما تُعرض بلغة رياضية جافة قد لا تُفهم بسهولة، ولكن إن صوّرها المرء في خياله كما لو كانت شيئًا ملموسًا، اقترب كثيرًا من إدراك حقيقتها.
وعلى العكس من ذلك، إذا اكتفى الإنسان بالمعادلات والمفاهيم النظرية فقط، دون أن يحاول أن يتخيلها في صورة حسية أو شكل ملموس، ففهمه سيبقى ضعيفًا، بلا عمق ولا أثر. ولهذا عليه أن يظل في رحلته نحو الفهم، ولا يتوقف، حتى تتكوّن في نفسه صورة داخلية للفكرة، يرى بها ما لم تستطع الحسابات المجردة أن تريه.
وقد لاحظت سلوكًا آخر مشتركًا بين كثير ممن عرفتهم من أذكى الناس، وهو سلوك قد يبدو غريبًا في الظاهر، لكنه بالغ الأهمية في العلم والفكر: إنه عدم الخوف من أن يبدو الإنسان غبيًّا.
يحدثنا مالكولم جلادويل عن أبيه فيقول:
أبي لا يعاني من أي قلق فكري. لم يخطر بباله يومًا أن يهتم لما إذا اعتقد الناس أنه أحمق. هو لا يلعب هذه اللعبة أصلًا. فإذا لم يفهم شيئًا، فإنه ببساطة يسألك عنه. لا يهمه إن بدا أحمقًا، بل يسأل السؤال الأكثر وضوحًا دون تردد أو وجل. ولهذا تراه يطرح كثيرًا من الأسئلة الغبية، بالمعنى الشريف للكلمة. يسأل الرجل فيقول له: (لا أفهم. اشرح لي). ولا يكف عن السؤال حتى يتبيّن له الفهم الصحيح. وقد نشأت في بيت أسمعه فيه يسلك هذا السلوك في جميع الأحوال والمواقف. لو أن أبي قابل المحتال الشهير "بيرني مادوف"، لما خُدع به أبدًا، لأنه كان سيقول له مرارًا: (لا أفهم، كيف يعمل هذا النظام؟ ما الذي يحدث هنا؟)"، وكان يقول ذلك بصوته الهادئ البسيط، الذي قد يبدو للبعض ساذجًا. ولكنه بذلك كان ينجو من الوقوع في فخ الغموض والخداع، لأنه لم يكن يمر على الأمور مرور الكرام.
وأما غالبية الناس، فإنهم لا يمتلكون تلك الشجاعة النفسية التي تجعل المرء لا يخشى أن يبدو جاهلًا أو ساذجًا أمام الآخرين. فأن يَقبل الإنسان أن يبدو غبيًّا في نظر من حوله يتطلب شجاعة نادرة. ولهذا يفضّل كثيرون أن يظلوا صامتين، وأن تمرّ الأمور كما هي دون اعتراض، ولو كانوا لا يفهمون ما يُقال.
وقد أثار استغرابي عدد المرات التي وجدت فيها نفسي أطرح سؤالًا بسيطًا، سؤالًا يُفترض أنه واضح، فشعرت حينها بشيء من الحرج، لأنني أبطأت مجرى الحديث، وبدوت كمن يعيق الحوار. ثم لا يلبث أن يتضح لي أن أغلب الحاضرين كانوا مثلي، لم يفهموا أصلًا ما يُقال، ولكنهم خجلوا من السؤال. بل كثيرًا ما وصلتني رسائل خاصة من بعضهم، يشكرونني في صمت لأني تجرأت وطرحت السؤال. كنت، في أغلب الأحوال، الوحيد الذي قال بصوت مسموع ما لم يتجرأ أحد على قوله.
وهذا السلوك – أي الجرأة على السؤال – ليس صفة يولد بها الإنسان، بل هو عادة يمكن اكتسابها بسهولة. وهي من العادات الذهنية التي تُنمّي الفهم وتزيد من الذكاء العملي.
رابعًا
لا أنسى تلك المرحلة الدراسية حين بدأنا نتعلم حساب التفاضل والتكامل. فقد توقفت طويلًا عند رمزية "dy/dx"، وهي صيغة رياضية تُستخدم للدلالة على "الاشتقاق"، أي معدل التغيّر اللحظي أو الآني لقيمة ما بالنسبة إلى أخرى. هذه الرمزية تُنسب للعالم لايبنتز، الذي كان من أوائل من وضعوا أسس هذا العلم.
وكان هذا الرمز يبدو لي، في ظاهره، وكأنه كسر اعتيادي، أي أننا نقسم كمية اسمها dy على كمية أخرى اسمها dx. لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك. فالرمز "dy/dx" لا يعني قسمة dy على dx كما نقسم عددين، بل هو اختصار يدل على التغير البسيط جدًّا – أو المتناهي في الصغر – الذي يحدث في قيمة المتغير y حين يتغير x بمقدار ضئيل جدًّا كذلك.
لكنني لم أستطع أن أفهم كيف يمكننا أن نتعامل مع هذه الرموز وكأنها أعداد تُقسم وتُضرب، بينما هي تمثل تغيّرات صغيرة إلى درجة يصعب إدراكها.
ثم جاءت لحظة في الدرس، حين بدأنا ندرس النظرية الأساسية في حساب التفاضل والتكامل، وطلب منا المعلم أن نحذف بعض الرموز مثل dy أو dx لأنهما – حسب قوله – كميّتان متناهيتان في الصغر، ويمكن تجاهلهما. وهذا التبرير لم يقنعني، لأنه لم يكن دقيقًا ولا منطقيًّا بما يكفي.
ثم جاء "البرهان" الذي عُرض علينا لشرح ما يُعرف بـ"قاعدة السلسلة"، وكان على الشكل التالي:
dz/dx = dz/dy × dy/dx
وكان المدهش أن هذه الطريقة – على الرغم من أنها غير صحيحة تمامًا من وجهة نظر صارمة رياضيًّا – كانت تُعطي نتائج صحيحة! وكانت تشبه في ظاهرها البراهين المنطقية، لكنها لم تكن مطمئنة للعقل، ولم تكن واضحة بالنسبة لي.
وقد تبيّن لاحقًا أن تدوين لايبنتز – أي طريقته في كتابة هذه الرموز – لم يكن إلا وسيلة ذكية ومختصرة للتعبير عن المفاهيم المعقدة، وأننا نستطيع بالفعل أن نتعامل معها كما لو كانت كسورًا، لكن هذا التعامل مبني على أسس رياضية دقيقة، لا تظهر بسهولة للطلاب في المراحل الأولى من التعلم. ولأن هذه الرموز كانت أوضح وأسهل في الاستخدام، فقد انتشرت في أوروبا القارية، بينما تمسكت بريطانيا بتدوين نيوتن، الذي كان يعتمد على الرموز الخاصة بالدوال، أي بالوظائف الرياضية التي تصف العلاقة بين المتغيرات.
ولهذا السبب، تقدّمت أوروبا القارية على بريطانيا في تطوير علم التفاضل والتكامل. ولكن جميع الإشكالات المنطقية التي كانت تحيط بهذا العلم لم تُحلّ بصورة جذرية إلا بعد أكثر من قرنين من الزمان، حين جاء الرياضي العظيم "ريمان"، فأسّس نظريات جديدة تقوم على مفهوم "النهايات"، أي القيمة التي تقترب منها دالة رياضية حين يقترب المتغير من نقطة معينة، وهو ما فتح بابًا جديدًا لفهم دقيق لهذا العلم.
أما في أيام دراستي الثانوية، فكانت كل هذه الخلفيات بعيدة عن إدراكي تمامًا. كنت في تلك المرحلة أشعر بالغضب من هذه الشروحات التي لم تكن تشبع العقل، ولا تُقنع النفس، ولكن لم يكن لي من خيار. كان عليّ أن أواصل السير مع المنهج، وأن أحفظ الخطوات كما هي، وأن أطبق القوانين بلا فَهم عميق، فقط لأتمكن من النجاح في الامتحان، شأن جميع زملائي الذين كانوا مجبرين على الانتقال من درس إلى آخر دون تأنٍّ.
ما دام الإنسان قادرًا على الإجابة عن أسئلة الامتحان، وعلى تنفيذ خطوات التفاضل والتكامل كما لو كان آلة تحفظ وتنفذ دون فهم حقيقي، فإن من الأسهل، بل من الأسلم – في نظر الكثيرين – أن يكتفي بذلك. أن ينجح، دون أن يسأل نفسه: ما الذي أفعله حقًّا؟ وما معناها؟ وهذا بالضبط ما يفعله معظم الناس.
فقليلون جدًّا هم من يعودون لاحقًا، طوعًا، ليحاولوا فهم هذا الموضوع أو غيره فهمًا أعمق. بل إن الرسالة الخفية التي يتلقّاها الطالب – دون أن يقال له صراحة – هي: لا تُكثر من الأسئلة، ولا تطرح الإشكاليات، وإلا تأخّرت عن اللحاق بركب الباقين. تعلّم خطوات الحل، أدخل الأرقام في مكانها، ثم تابع طريقك. المهم أن تسير بسرعة. وهكذا، وبهذه الطريقة نفسها، تموت في النفس تلك الرغبة النبيلة: "إرادة الفهم".
ولهذا، فإنني أقول – وأدعو من أراد الفهم الحقيقي أن يعمل به – لا تتعجل. تمهّل. اقرأ ببطء، وتفكّر ببطء، وخُذ وقتك كاملًا في التأمل. لا تبدأ بالمطالعة، بل ابدأ بطرح السؤال. فكّر فيه بنفسك أولًا، قبل أن تقرأ ما قاله الآخرون. قد يقودك أسبوع واحد، بل حتى شهر كامل من التفكير المتصل في سؤال واحد فقط، إلى أعماق لم تكن تتوقعها.
حينها، سيتكوّن في ذهنك إطار معنوي وفكري، يساعدك على ترتيب ما تقرأه، وربط المعلومات الجديدة بهذا الإطار. وستجد أنك تحفظ ما تقرأ بسهولة أكبر، وأن هذه المعرفة تظلّ حاضرة في ذهنك لزمن أطول. لقد قرأت مرة عن "بيل جيتس"، مؤسس مايكروسوفت، أنه كان ينظّم لنفسه ما يسميه "أسابيع القراءة"، وهي فترات يخصصها للغوص في موضوع واحد بعمق. لكنه لم يكن يبدأ بقراءة الكتب مباشرة، بل بوضع قائمة من الأسئلة الأساسية التي تشغله في ذلك الموضوع، ثم يقسّمها إلى فروع. فإذا كان موضوعه مثلًا "ندرة المياه"، فإنه يسأل: كم يبلغ حجم المياه في العالم؟ من أين يحصل البشر على مياه الشرب؟ هل يمكن تحلية مياه البحر لتصبح صالحة للشرب؟ ... وهكذا، يبدأ في القراءة ليبحث عن إجابات لهذه الأسئلة.
وهذه الطريقة أنفع بكثير من أن يقرأ الإنسان قراءة عشوائية، تمر عليه كأنها نسيم لا يترك في الذهن أثرًا.
خامسًا
من أجمل ما قرأته عن الفهم العميق، الفهم الذي لا يرضى بالسطح ولا يكتفي بالقشور، ما ورد في سلسلة فكرية شهيرة بعنوان "التسلسلات"، وخصوصًا في فصل منها يحمل عنوان "ملاحظة الارتباك".
في هذا الفصل، تُقدَّم مجموعة من الأسئلة المفيدة التي تشبه "التعويذات الذهنية"، أي أدوات ثابتة يمكنك الرجوع إليها كلما أردت أن تفهم شيئًا بعمق. من هذه الأسئلة:
– ما هذا الشيء، تحديدًا؟ ما طبيعته الحقيقية؟
– لماذا يجب أن يكون هذا الشيء صحيحًا؟ ما الأساس الذي يستند إليه؟
– هل أؤمن فعلًا بما أقول؟ هل أُصدّقه في داخلي؟ وهل أنا على استعداد لأن أراهن عليه بمبلغ كبير من المال أمام شخص أثق به؟
هذه الأسئلة البسيطة، في ظاهرها، تُجبرك على التوقف، وإعادة النظر، وعدم الاكتفاء بالجواب السهل أو الجاهز. وهي، لمن يتبناها، بداية طريق الفهم الحقيقي.
سادسًا
وإليك مثالين يُضيئان طريق الفهم العميق:
المثال الأول ورد في كتاب "ABC of Reading" للمفكر عزرا باوند، وهو كتاب لم يُقدَّر حق قدره في نظر كثير من النقاد. يقول باوند فيه: "لا يصلح أحد للتفكير الحديث إذا لم يعرف قصة أجاسيز والسمكة."
وحكاية هذه القصة تبدأ حين جاء طالب دراسات عليا، يحمل شهاداته وألقابه العلمية، إلى العالم الشهير "أجاسيز"، يطلب منه أن يعلّمه العلم حقًّا. فما كان من أجاسيز إلا أن أعطاه سمكة صغيرة، وقال له: "صفها لي."
فأجابه الطالب بثقة: "إنها سمكة شمس." – وهو نوع شائع من الأسماك.
فرد عليه أجاسيز قائلاً: "أعرف ذلك. لكن أريد منك أن تكتب لي وصفًا لها."
فما كان من الطالب إلا أن عاد بعد دقائق بورقة مليئة بالمصطلحات العلمية المعقدة، سمّى فيها السمكة باسم طويل وصعب مثل: Ichthus Heliodiplodokus، وتحدث عن تصنيفاتها وفصائلها، من مثل عائلة Heliichterinkus، وهي تسميات قد تكون مأخوذة من كتب التصنيف البيولوجي.
لكن أجاسيز لم يقتنع، وطلب منه مرة أخرى أن ينظر إلى السمكة ويصفها، لا أن يكرر محفوظاته. فعاد الطالب، وهذه المرة كتب مقالاً من أربع صفحات، ومع ذلك لم يرضَ عنه أستاذه. وأمره بأن يواصل النظر إلى السمكة.
وبقي الطالب أيامًا وأسابيع يحدّق في السمكة، وهي تتحلل شيئًا فشيئًا حتى أصبحت رائحتها لا تُطاق. ومع ذلك، لم يكن ما خرج به الطالب شيئًا بسيطًا: فقد تعلّم أن ينظر، أن يرى بعينه، لا بعين الكتب، وتكوّنت لديه معرفة حقيقية بما يرى. حتى بحالة التحلل.
**
أما المثال الثاني فقد ورد في كتاب "زن وفن صيانة الدراجات النارية"، وهو من أحب الأمثلة إلى نفسي.
يحكي الكاتب عن تجربة مرّ بها مع طلابه، حين لاحظ أن بعضهم، رغم اجتهادهم، يعجزون عن الكتابة. لا لأنهم كسالى، بل لأن أذهانهم كانت خاوية من الأفكار، كأنها مجمّدة.
واحدة من هؤلاء، فتاة ترتدي نظارات سميكة، طُلب منها أن تكتب مقالًا من 500 كلمة عن "الولايات المتحدة"، موضوع واسع وعام. فاقترح عليها الأستاذ أن تضيق الموضوع وتكتفي بالكتابة عن مدينة واحدة: "بوزيمان".
لكن حين جاء موعد تسليم المقال، لم تكتب شيئًا، وكانت غاضبة حزينة. حاولت مرارًا، ولكنها لم تستطع أن تكتب سطرًا واحدًا.
وكان الأستاذ قد سأل عنها من درّسوها من قبل، فأكدوا له أنها طالبة مجتهدة ومنضبطة، لكنها بلا شرارة، لا تملك إبداعًا، وكأنّها تؤدي ما يُطلب منها فحسب. لم تكن تراوغ، بل كانت حقًّا عاجزة عن الكتابة، وهذا ما أحزنها.
فاحتار الأستاذ، وسكت قليلًا، ثم خطرت له فكرة مفاجئة. قال لها: "اختصري الموضوع أكثر. اكتبي عن الشارع الرئيسي في بوزيمان فقط."
أومأت برأسها، وانصرفت. لكنها عادت قبل الحصة التالية بعينين دامعتين، تبدو عليها الحيرة والارتباك. لم تكن تفهم: كيف يُطلب منها أن تكتب عن شارع واحد، وهي لم تستطع أن تكتب عن مدينة كاملة؟
عندئذ، لم يتمالك الأستاذ نفسه من الغضب، وقال لها: "أنتِ لا تنظرين!" – وكان يقصد أنها لم تحاول أن ترى بنفسها، بعينيها، بل كانت تحاول أن تكتب ما تتذكره مما قيل لها سابقًا، كما يفعل كثيرون حين يكررون ما حفظوه.
ثم قال لها بحزم: "اختصري أكثر. اكتبي عن واجهة مبنى واحد فقط في الشارع. دار الأوبرا. وابدئي بالطوبة (أي الحجر) التي في أعلى الزاوية اليسرى من الواجهة."
بدت الدهشة في عيني الفتاة خلف عدساتها السميكة، لكنها لم تعترض.
وفي الحصة التالية، عادت وقد كتبت مقالًا من خمسة آلاف كلمة عن واجهة دار الأوبرا في الشارع الرئيسي بمدينة بوزيمان في ولاية مونتانا الأمريكية. وقالت:
"جلست في مطعم الهامبرغر المقابل، وبدأت أكتب عن الطوبة الأولى، ثم الطوبة الثانية، وبعد الطوبة الثالثة لم أعد أستطيع التوقف. ظنوا أنني جُننت، وكانوا يسخرون مني، لكنني لم أستطع التوقف عن الكتابة. لا أفهم تمامًا ما الذي حدث."
حتى الأستاذ نفسه لم يفهم ما جرى تمامًا. لكنه أدرك، خلال تأمله في هذه القصة، أن الفتاة كانت مصابة بنوع من الشلل الذهني – تشبه الحالة التي أصابته هو يومًا ما – لأنها كانت تحاول أن تكتب ما سمعته، لا ما رأته. كانت تفتش في ذاكرتها، لا في واقعها. ولهذا فشلت. أما حين أُجبرت على النظر إلى شيء صغير جدًا – مجرد طوبة – فإنها بدأت ترى، ومع كل طوبة، كانت تخرج منها فكرة، ومن كل فكرة فقرة، ومن كل فقرة حياة.
لقد كانت تظن أن الكتابة تكرار لما قاله الآخرون، لكنها اكتشفت أنها يمكن أن ترى بنفسها، وتكتب بما تراه، لا بما سمعت. وهذه هي بداية الفهم، وبداية التفكير الأصيل.
ومغزى هذين المثالين واحدٌ لا يخطئه من تأمل: لا شيء يعادل التجربة المباشرة. فالإنسان، كي يدرك حقيقة ما، لا بد له أن يخوض غمارها بنفسه، أن يرى بعينيه، ويلمس بيده، ويعيشها كما هي. لهذا السبب، رغبت ذات يوم في أن أُحلّل المادة الوراثية لفيروس كورونا بنفسي، لا اعتمادًا على ما كتبه الآخرون. ذلك أن بناء المعرفة الحقيقية لا يكون بتلقي ملخّصات مرتبة نقلها غيرنا عن واقع فوضوي معقد، بل بالاقتراب من تلك الفوضى كما هي، والغوص فيها لاستخلاص ما تخفيه من قوانين وحقائق.
فالذي لم يُجرّب لا يُنتظر منه أن يقول شيئًا يُعتمد عليه، وإنما يعيد سرد ما سمعه، ويستحضر حكايات وأفكارًا ليست من صنعه، بل حملها من ذاكرته كما يحمل أحدهم سلعةً على ظهره. وما يُكتَب في الكتب السهلة أو في مقالات الصحف العامة لا يُعد فهمًا حقيقيًا، بل قد يُضعف العقل أحيانًا إذا امتلأ بأفكار غريبة عن صاحبه، لا ترتبط بتجربته، ولا تنبع من أسئلته.
وحتى إن لم تملك القدرة على التجربة المباشرة، فاطلب العلم من أصوله، من مصادره المتينة، التي تفيض بتفاصيل دقيقة، وتقوم على وقائع مشهودة. فإذا أردت أن تفهم شيئًا في السياسة الخارجية، مثلًا، فارجع إلى الكتب الصادرة عن الجامعات ومراكز البحث الرصينة، ولا تكتفِ بمقالات مجلات مثل "ذا أتلانتيك" أو "ذا إيكونوميست"، فهي موجهة للعامة، وتصلح للاستئناس لا للعمق. يمكنك أن تقرأها لاحقًا، حين يكون لديك تصورٌ واضح، ونموذجٌ ذهني تبني عليه حكمك وتمييزك لما يُقال.
وهناك معنى آخر لطيف يهمس به إلينا مثال "الطوبة": وهو أن الفهم ليس أمرًا ثنائيًا، كأن نقول: إما أن تفهم أو لا تفهم. بل هو طبقات، ودرجات، وعمق يتفاوت من شخص لآخر. خذ مثلًا صديقي الذي فهم نظرية فيثاغورس بقدر أوسع مما كنت أفهمه؛ فقد كان يستطيع أن يُثبت صحتها بست طرق مختلفة، لأنه ظل يُفكر فيها طويلًا، ويعيد النظر فيها مرارًا.
وأبسط الأشياء، إذا تأنيت في فهمها، وتعمّقت في تأملها، قد تمنحك علمًا وفهمًا ثمينًا. وقد أورد العالم مايكل نيلسن مثالًا جميلاً عن ذلك حين تحدث عن علامة التساوي (=).
قال إنه لم يدرك معناها العميق إلا بعد أن قرأ مقالًا للعالم الرياضي أندريه كولموغوروف، وهو من كبار علماء الرياضيات. فقد تحدث هذا العالِم، بتقدير كبير، عن هذه العلامة الصغيرة: كيف أنها كانت رمزًا ذكيًا، وكيف أنها ساعدت في نشأة فكرة المعادلات الجبرية والتلاعب بها. وأوضح في مقاله بعض الجوانب التي يُمكن أن تُعد من عيوبها، رغم بساطتها.
وقبل قراءتي لذلك المقال، كنت أظن أنني أفهم تمامًا ما تعنيه علامة التساوي، وكنت سأغضب لو قيل لي غير ذلك. لكن المقال أقنعني أنني لم أكن أرى منها إلا ظاهرها، بينما المعنى الحقيقي كان أعمق مما تصورت.
وكما قال المصور الشهير روبرت كابا للمبتدئين من المصورين: "إذا لم تكن صورك جيدة بما فيه الكفاية، فأنت لم تقترب بما فيه الكفاية." وهو يقصد أن قرب المصور من موضوعه، ماديًا أو معنويًا، يجعل الصورة أكثر صدقًا وقوة. وهي نصيحة تنفع أيضًا في كتابة القصص الأدبية، لا التصوير وحده.
بل إنها، فوق هذا، نصيحة ثمينة لكل من يطلب الفهم: إذا شعرت أن فكرة ما مشوشة، فاقترب منها أكثر، دُر حولها، تمعّن فيها، ولا تكتفِ بنظرة عابرة، فإن سرّ الفهم في القرب.
نُقل بتصرّف عن موقع "bigthink"، بقلم Nabeel S. Qureshi.
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
لطالما اشغلني موضوع التفكير وآليته وأهميته، مقالك مميز وحلل الوسائل واحتاج اقراه مرة اخرى اتمنى ان استوعبه كاملا. شكرا استمتعت فيه جدا
fantastic