دور القانون فى إرساء دعائم الإستعمار
استخدمت الإمبراطورية البريطانية نموذجًا ديمقراطيًا عظيمًا لتصنيع الاختلاف العنصري وترشيد الهيمنة الاستعمارية
لقد كان القانون، بلا مراء، أحد الأعمدة الراسخة التي أقام عليها المشروع الاستعماري البريطاني هيمنته وسلطانه على الشعوب المغلوبة؛ فما كان لسلطتهم أن تستتب أو لمآربهم أن تتحقق إلا باستبدال قوانينهم بقوانين المستعمرين. لقد طغى الإيمان بتفوقهم الحضاري على نفوسهم، فاستنفروا هممهم ليُخضعوا شعوبًا كانت تعيش وفق أعرافها وتقاليدها، فجعلوا من القانون آلة لاستخلاص خيرات تلك الأرض ومواردها على النحو الذي يرضي أطماعهم ويُغني خزائنهم. وفي كتابه “الإنتداب المزدوج في أفريقيا الاستوائية البريطانية” (1922)، يعرض لنا ف. د. لوغارد، أول مندوب سامى لنيجيريا والمشرف على هونغ كونغ سابقًا، رؤيته لمزايا هذا الاستعمار بقوله:
إن أوروبا قد جنت من فتح أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر فوائد عظيمة، تمثلت في تحسين وسائل الراحة لشعوبها، بينما استفادت أفريقيا من السلع المصنعة ومن إحلال النظام والقانون مكان همجية لا تعرف الرفق ولا الرحمة.
هنا، يظهر التصور الأوروبي الذي دأب على إنكار أي نظام قانوني لدى الشعوب المستعمرة قبل أن تمتد إليها أذرع الاستعمار. وبلغ هذا الادعاء أقصى مداه مع مفهوم "تيرا نوليوس" – الأرض التي لا مالك لها – حيث زعم المستعمرون أن السكان الأصليين لا تنظيم سياسي لديهم ولا حقوق ملكية تُذكر. ولذا، لم يكن لتلك الأراضي مالك شرعي، بل إن غياب البنية السياسية ألحق بهم تهمة العدم السياسي، وأعفى المستعمرين من مفاوضة زعمائهم، مما فتح الباب لادعاء السيطرة على قارات بأكملها كما حدث في أستراليا. ولم يكن اجتماع برلين عام 1884-1885، حيث اجتمعت ثلاث عشرة دولة أوروبية مع الولايات المتحدة والإمبراطورية العثمانية لتقسيم القارة الأفريقية، إلا تطبيقًا صارخًا لهذا المفهوم. وهكذا، سادت قوانين المستعمرين واندثرت الشرائع الأصلية، واستُخدم القانون ذريعةً لصيانة المصالح البريطانية وتحقيق مكاسبها.
ففي مستعمرات مثل الهند، حيث لم يكن بالإمكان نفي وجود أنظمة قانونية محلية، اعتمد البريطانيون على معايير أوروبية لتعريف ماهية القانون، فأحلّوا تشريعاتهم مكان القوانين الأصلية بأساليب ملتوية. فأُعلنت تلك القوانين غير أخلاقية، أو حُصرت في مسائل شخصية مثل الزواج والإرث والميراث، فباتت تُطبق فقط على المستعمرين أنفسهم. أما القوانين المحلية التي سمح الاستعمار باستمرارها، فقد خضعت لتحويرات شديدة غيّرت معالمها حتى أصبحت ظلالًا باهتة لما كانت عليه.
وكانت سيادة القانون ركيزة أساسية في تصور بريطانيا لدورها كقوة استعمارية. وقد جسدت هذه العقيدة أفكار الفقيه البريطاني أ. ف. دايسي (1835-1922)، الذي أسس الفهم الحديث لسيادة القانون في مؤلفه “مقدمة لدراسة قانون الدستور” (1889). ولعل المنظرة السياسية جوديث شكلار كانت الأكثر بلاغة حين وصفته عام 1987 بأنه “انفجار مؤسف من العصبية الأنجلو-ساكسونية”؛ إذ عدّ دايسي سيادة القانون إرثًا إنجليزيًا خالصًا يعود إلى الغزو النورماندي. وقد حدد ثلاثة مبادئ رئيسية لهذه العقيدة: غياب السلطة التعسفية، والمساواة القانونية بين الجميع، وارتباط المبادئ الدستورية بالقانون العام الإنجليزي بدلًا من دستور مكتوب.
وإن حاول دايسي أن يحصر سيادة القانون ضمن حدود التقليد الإنجليزي، فإن جذورها تعود إلى الفلاسفة الإغريق، الذين ميّزوا بين حكم القانون وحكم الطغيان الذي يطلق العنان لهوى النفس وحكمها التعسفي. وقد تطورت هذه الفكرة على مدى قرنين من الزمن إلى تصورين رئيسيين: التصور الشكلي والتصور الجوهري لسيادة القانون. ففي محاولته لفصل هذه العقيدة عن مفاهيم العدالة، يجسد جوزيف راز في كتابه “سلطة القانون” (1979) التصور الشكلي قائلًا:
قد يتفق نظام قانوني غير ديمقراطي مع متطلبات سيادة القانون، حتى وإن أنكر حقوق الإنسان وفرض الفقر والفصل العنصري والتمييز الجنسي والاضطهاد الديني، أكثر مما تفعل بعض الديمقراطيات الغربية المتقدمة.
لعلّ المدرسة الشكلية لسيادة القانون تتجلّى في قدرتها على ضبط السلطة القانونية، وفرض القيود التي تحول دون استبداد السلطة التنفيذية، فضلاً عن دورها في تمكين الأفراد من تنظيم شؤون حياتهم وفق قواعد حكم مفتوحة، و واضحة، و عامة، ومستقرة إلى حد معقول. في المقابل، ترى النظريات الجوهرية الحديثة لسيادة القانون أن هذه العقيدة لا تنفصل عن مفاهيم مختلفة تتصل بالخير العام، سواء تجلَّى ذلك في حكومة ديمقراطية، أو في صيانة كرامة الإنسان وحماية حقوقه، أو في مفاهيم الحرية. وقد ردَّ توم بينغهام، في مؤلفه "سيادة القانون" (2010)، على أطروحة راز بالقول:
رغم وجاهة المنطق الذي قدَّمه البروفيسور راز، فإنني أرفضه رفضًا قاطعًا، وأميل إلى تعريف 'سميك' للسيادة يشمل حماية حقوق الإنسان في نطاقه. فلا يمكنني القبول بأن دولة تمارس القمع الوحشي على فئات من شعبها يمكن أن يُقال إنها تلتزم بسيادة القانون، حتى وإن نُفِّذت عمليات اضطهادها بموجب قوانين سنَّتها بدقة وتعمد.
رغم اختلاف تعريفات المدرستين لسيادة القانون، فإنهما تشتركان في الإقرار بأهميتها للدولة والمواطنين على حد سواء. وأرى أن الإمبراطورية البريطانية قد استثمرت هذه العقيدة لتدعم مشروعها الاستعماري وتكسبه شرعية أخلاقية زائفة، مستغلة مفاهيم السيادة لتغطية السياسات الاستعمارية التي قامت على التمييز العرقي ومكّنتها من استخراج الموارد من المستعمرة إلى العاصمة. وبذلك، لم تكن ممارسات الشرعية الاستعمارية تفي حتى بالحد الأدنى من الوعود التي قدَّمتها المفاهيم الشكلية للقانون.
مع بداية القرن السابع عشر، دشَّنت الإمبراطورية البريطانية مستعمراتها الأولى في أمريكا الشمالية، وسرعان ما توسعت لتبلغ ذروتها في أوائل القرن العشرين، حيث شملت ربع العالم وسكانًا يفوق عددهم 450 مليون نسمة. وقد كان تعريف دايسي لعقيدة سيادة القانون جزءًا من المشروع الإمبراطوري ذاته، حيث شارك بنفسه في العديد من المناقشات البريطانية حول الإمبراطورية وواجباتها الأخلاقية والقانونية. وعلى الرغم من إقراره بأن فرض السيادة القانونية من مجتمع على آخر قد يكون قمعيًا وتعسفيًا، فإنه رأى العقيدة سليمة في جوهرها، وعزا هذا التناقض إلى حقيقة أن بعض الحضارات كانت "متخلفة" للغاية لدرجة أنها لم تقدر فوائدها. ورغم تحفظاته، ظلَّ مؤمنًا بأن الإمبراطورية البريطانية قد جلبت معها سيادة القانون، معتبرًا ذلك أعظم إنجازاتها: "إن الأثر الوحيد الثابت لحكومة إنجلترا في الشرق هو إرساء سيادة القانون."
لم يكن البريطانيون يعدون سيادة القانون مجرد سياسة إدارية، بل اعتبروها حجر الزاوية في تصورهم لأنفسهم كقوة استعمارية راقية. فقد مثَّلت السيادة القانونية نقيضًا لحكم "الطاغية الشرقي"، ووسمت بريطانيا بالتحضر مقارنة بمستعمرين أوروبيين آخرين، مثل الإسبان والبلجيكيين، الذين وُصفوا بالوحشية وعدم الالتزام بالعدالة. لكن التطبيق العملي لتلك العقيدة اقتصر على من رآهم الضباط البريطانيون مؤهلين لها. أمَّا من اعتبروهم "غير متحضرين"، فقد استُبعدوا منها بحجة أنهم غير مستحقين. ولهذا السبب، مُنع غالبية السكان في المستعمرات من حقوق قانونية أساسية، مثل المحاكمة أمام هيئة محلفين، بينما كان القضاة المعينون في المستعمرات خاضعين لإرادة السلطة الاستعمارية، يفتقرون إلى الاستقلالية، ومهددين دائمًا بالإقالة التنفيذية إن تجاوزوا الحدود المرسومة لهم.
وقد تجلت هذه السيطرة في واقعة إقالة جوزيف بومونت من منصب رئيس القضاة في غيانا البريطانية عام 1868، حيث نُصح المجلس الخاص بعزله لأنه افتقر إلى "الهدوء القضائي" وتجرأ على انتقاد الحكومة الاستعمارية. في مثل هذه الحالات، كانت أي محاولة لتطبيق مبدأ المساواة تهدد مصالح النظام الاستعماري، وتؤدي إلى التضحية باستقلال القضاء عن واضعي القانون الإستعماري.
وفي حالات نادرة، حاول النظام القانوني البريطاني في المستعمرات تكريس فكرة المساواة القانونية. ففي قضية كامبل ضد هول (1774)، حيث خُصِص النقاش حول فرض الضرائب في غرينادا، أشار اللورد مانسفيلد إلى مفهوم حديث للسيادة القانونية يشمل الحقوق، قائلاً: "لا يتمتع الإنجليزي في أي مستعمرة بحقوق تختلف عن حقوق السكان الأصليين." غير أن هذه المثالية القانونية لم تصمد أمام ممارسات الاستعمار التي استعبدت البشر وكرَّست الفوارق العرقية، مما قوَّض أي التزام حقيقي بالمساواة.
وفي عمله الشهير "الأمة وشظاياها" (1993)، كشف بارثا شاترجي عن الأساس الذي ارتكزت عليه الأنظمة القانونية الاستعمارية، مؤكدًا أن الإمبراطورية البريطانية، رغم تبنيها المزعوم للأيديولوجيا الليبرالية، اعتمدت على ترسيخ التفوق العرقي كهدف جوهري. لم يكن التمييز مجرد عرض جانبي، بل كان لبَّ المشروع القانوني الاستعماري الذي سعى لتبرير الهيمنة وتعزيزها.
كانت النظرة إلى العرق والتقسيم الثنائي بين «المتحضر» و«الهمجي» من أركان الفلسفة القانونية في المستعمرات. وقد استند هذا التصور إلى أفكار عتيقة تزعم تفوقًا بيولوجيًا وجسديًا للشعوب، حيث كان الرجل الأنجلو-ساكسوني الأبيض يتبوأ قمة الهرم العرقي والثقافي. ولم يكن هذا التفوق المزعوم مقتصرًا على الجوانب البيولوجية فقط، بل اقترن به تصور ثقافي جعل من «التخلف» و«الانحطاط» مصيرًا محتومًا للأعراق الأخرى، فاندمجت الأحكام القيمية بالمظاهر الجسمانية، وأُسبغت على الخصائص التي كانت محايدة في أصلها دلالاتٌ قيمية تجعل الأبيض سيدًا والحاكم على رأس كل فضيلة، بينما غُمر المستعمرون في أوحال النقص والدونية.
ونجد هذه التفرقة واضحة أشد الوضوح في كلمات اللورد سومنر، عضو مجلس الملكة الخاص، حين عالج قضية «ري ساوثرن روديسيا» (1919):
إنّ تقدير حقوق القبائل الأصلية هو في حقيقته مهمة بالغة الصعوبة. إذ نجد بعض القبائل هابطة إلى درك بعيد في سلم التنظيم الاجتماعي، حتى لتبدو عاداتها وأفكارها حول الحقوق والواجبات متنافرة كل التنافر مع نظم المجتمعات المتحضرة وقوانينها... وفي المقابل، هناك شعوب، وإن تباينت مفاهيمها القانونية عن مفاهيمنا، فإنها تُظهر دقة وقابليةً للتطبيق لا تقل عن قوانيننا الإنجليزية. وبين هذين الطرفين مجال فسيح من اختلافات لها أهمية عظيمة في علم الأعراق.
من هذه النظرة، أصبح العرق معيارًا يحدد الحقوق القانونية للشعوب المستعمَرة؛ فتُرك بعضهم خارج مظلة سيادة القانون، لا كحرّاس لها، بل كضحايا يخضعون لسطوتها. وأشدّ صور هذا الانحراف بشاعةً ما تجلى في العبودية التي نزعت عن الأفارقة إنسانيتهم، وبقيت مشرعة الأبواب حتى اكتمل سريان قانون الإلغاء عام 1838.
وفي مستعمرة بربادوس، يبرز «قانون حكم الزنوج» لعام 1688 مثالًا حيًا لهذا النظام القاسي، حيث صرّح بأن «الزنوج قوم همجيون وبربريون بالطبيعة، غير مؤهلين للحكم وفقًا لقوانين الأمة وتقاليدها». وهكذا تأسس نظام قانوني مزدوج جعل للعبيد قوانينهم الخاصة، حيث كانت جرائمهم تُحاكم في محاكم دون هيئات محلفين. ولم يقف التمييز عند حد الجرائم المرتبطة بوضعهم الإجتماعي – أي جرائم يمكن أن يرتكبها العبيد فقط، مثل الهروب، أو إساءة معاملة الإقطاعي/الشخص الحر، أو حيازة الأسلحة – بل امتد إلى العقوبات التي كانت مصممة لتعذيب الأجساد وإذلالها، كالجلد والحرق والبتر وتشويه الأعضاء التناسلية. وقد استحال القانون في نظر العبيد كابوسًا لا ينتهي من الرعب والعنف.
وفي مستعمرات أخرى، كأستراليا والهند، وُضعت بعض القبائل تحت تصنيف «خارجة عن القانون» بموجب مفاهيم بربرية مجحفة، كما في قانون القبائل الإجرامية لعام 1871 في الهند، حيث كانت العقوبات تُفرض على جماعات بأكملها لمجرد ذنب فردي، في تجاهل صارخ لمبدأ العدالة الفردية.
على النقيض من ذلك، وفي خضم القرن التاسع عشر، نالت المستعمرات البيضاء حظًّا من الحريات التي ارتبطت، من الناحية الأيديولوجية، بسيادة القانون. ففي أرجاء الإمبراطورية، كان المستعمرون البيض على وعي تام بالامتيازات التي منحها لهم القانون الاستعماري، فكانوا يترددون في قبول أي مساس بها أو تقليص لها. وفي ضوء إطار باتريس شاترجي الفكري، تقدم إليزابيث كولسكي في دراستها الموسومة بـ"العدالة الاستعمارية في الهند البريطانية" (2010) حجةً قويةً مفادها أن مفهوم سيادة القانون كان يتناقض تناقضًا صارخًا مع تأسيس الاختلاف العرقي بموجب القانون ذاته، فضلًا عن التحيز الصريح الذي مارسه الموظفون القانونيون، من شرطة وقضاة وهيئات محلفين. وقد أدى هذا التناقض إلى إثارة واحدة من أعظم الجدالات القانونية في الهند الاستعمارية، وذلك عندما طُرح مشروع قانون إلبرت عام 1883، الذي اقترح السماح للقضاة الهنود بالفصل في قضايا تتهم فيها أفرادًا بريطانيين وأوروبيين. إلا أن الاحتجاجات العنيفة التي أطلقها السكان البيض أجبرت المشرعين على إعادة النظر، فصدر القانون أخيرًا في عام 1884 بعد تسويةٍ ضمنت أن يُحاكم البريطانيون والأوروبيون فقط أمام هيئات محلفين يغلب عليها الطابع البريطاني الأوروبي. وبالطبع، لم تُمنح مثل هذه الضمانات للسكان الهنود، مما يؤكد مرة أخرى التفاوت العميق في تطبيق العدالة.
وكما جرى الحال في مستعمرات أخرى، فقد كانت جنوب أفريقيا ساحةً لاستعمال عقيدة سيادة القانون أداةً لتكريس الهيمنة العرقية وتضييق الخناق على حقوق الأفارقة والآسيويين في النظام القضائي. ويعرض مارتن شانوك، في مؤلفه القيم "تشكيل الثقافة القانونية الجنوب أفريقية 1902-1936"، صورةً جليةً لهذا التحيز المتأصل، حيث يبين أن هذا المبدأ القانوني قد شُيِّد في البلاد على أساسٍ عرقي بحت. ومن الأمثلة التي يسوقها شانوك على ذلك، قانون المناطق الحضرية للسكان الأصليين الصادر سنة 1923، الذي مكّن السلطات البلدية من ممارسة سلطات استبدادية بلغت حدّ منح المشرف المحلي سلطة إزالة الأشخاص من المناطق البلدية وتدمير أكواخهم إن لم يمتثلوا لأوامره في غضون أربع وعشرين ساعة. ولئن بدا هذا التطبيق متعسفًا، فإن حكمًا في قضية «توتو وآخرون ضد بلدية كيمبرلي» بين عامي 1918 و1923 قضى بعدم خروج هذه اللائحة عن حدود المعقولية أو القانون.
أما الآسيويون، فقد كان لهم نصيب وافر من التشريعات التي عكست قلق المستعمرين حيال ما وصفوه بالمخاطر الاجتماعية والاقتصادية. وقد استندت هذه التشريعات إلى ثلاثة دوافع رئيسة: الخوف من اختلاط ربات البيوت البيض بالتجار الآسيويين في غياب أزواجهن، مما قد يفضي إلى علاقات جنسية غير لائقة بالرجل الأبيض؛ والقلق من تقديم التجار الآسيويين قروضًا للبيض الفقراء، مما يُضعف نظام التراتب العرقي؛ وكذلك خشية فقدان النساء البيض العاملات في متاجر الآسيويين شعورهن بالفوقية العرقية.
ولم يكن هذا التمييز مقتصرًا على الحقوق الاقتصادية، بل امتد إلى العقوبات الجنائية التي كرست تفاوتًا فجًا في معاملة البيض والسود. ففي الإمبراطورية البريطانية بأسرها، كانت الجرائم التي يرتكبها غير البيض ضد البيض تلقى أشد العقوبات قسوةً، في حين كانت العقوبات على البيض أكثر تساهلًا حتى عند وقوع العنف بين بعضهم البعض. أما العنف الذي يمارسه البيض على غيرهم من السكان المستعمرين، فقد عُدّ جزءًا طبيعيًا من البنية الرأسمالية الاستعمارية، حيث احتفظ «الأسياد» بما يُعرف بـ«حق التأديب»، الذي خوّلهم جلد عمالهم وضربهم وتشويههم وحبسهم دون رقيب أو حسيب، وظلّ هذا العنف العشوائي سرًا من أسرار الإمبراطورية الأكثر حرصًا على الإخفاء.
وكانت المساواة في العقوبة بين الأعراق المختلفة مسألة شائكة تُثار حولها نقاشات لا تنتهي، حيث تركزت الحجج المعارضة على فروق زُعمت عقلية وثقافية، وأخرى جسدية وبيولوجية. ففي سنة 1844، تقدم هربرت مادوك، أحد أعضاء المجلس التشريعي، باقتراح يقضي بمنح السجناء الإنجليز في الهند أحكامًا أقصر، مبررًا ذلك بأن حرارة السجون المكتظة بجدرانها العالية لا تضر السكان الأصليين، لكنها تؤثر تأثيرًا بالغًا على صحة الإنجليز.
وقد عُززت هذه الفروق العرقية قانونيًا من خلال تقييد التعليم القانوني والمهن القانونية على غير البيض، وهو ما بلغ أوجه في تنجانيقا، حيث كانت الحكومة الاستعمارية تشترط درجة قانونية بريطانية لممارسة المهنة، بينما حرمت الأفارقة من منح دراسية للدراسة في بريطانيا. وكان لهذه السياسة ما يماثلها في مستعمرات أخرى بأفريقيا، مما أدى إلى استبعاد السكان الأصليين من ميدان القانون، وتركهم دون أدوات لمقاومة الحكم الاستعماري.
ومع كل هذا الفشل الذي أحاط بعقيدة سيادة القانون، لم تكن أصابع الاتهام تُوجه إلى النظام ذاته، بل ألقي اللوم على فساد المسؤولين المحليين، سواء كانوا بيضًا أم غير بيض، أو على تخلف الشعوب المستعمرة. وصُور هذا التخلف والفساد كتبرير لاستمرار الحكم الاستعماري، بحجة أن الشعوب الخاضعة له لا تزال بحاجة إلى التحضر قبل أن تستحق نعمة سيادة القانون.
لقد كانت هناك أسباب شتى تؤكد عجز سيادة القانون الجوهرية عن ترسيخ دعائمها في المستعمرات، وتهيئتها للفشل الحتمي. أول هذه الأسباب أنها لم تستطع أن تتحرر من نشأتها. فبرغم مزاعمها الكونية وشعاراتها السامية، بقيت سيادة القانون محصورة في إطارها الأوروبي الاجتماعي، ولم تكن إلا أداة قهرية تستخدمها الدولة الاستعمارية متى وجدت في ذلك نفعًا لها، متناسيةً تلك المبادئ حين تهدد مصالحها. ويتصل بهذا السبب أمر آخر يلفت إليه ديفيد كيلينغراي النظر في مقاله "الحفاظ على القانون والنظام في أفريقيا الاستعمارية البريطانية"، حيث يرى أن هذا المفهوم ظل متعارضًا مع الطبيعة الاستبدادية للحكم الاستعماري الذي تطلب قمع المستعمرين واستغلالهم. فالدولة المستعمرة لم تقم على القانون، بل على المراسيم والأوامر التي تُصدر لتوطيد قبضتها على شعوب المستعمرات. وقد أضعف هذا التمييز العنصري الالتزام بأي شكل من أشكال سيادة القانون؛ إذ إن ما وُعد به المستعمرون من مساواة قانونية لم يكن سوى شعارات جوفاء، بينما منح التطبيق القانوني الحقيقي امتيازات خاصة للبيض، وغض الطرف عن عنفهم ضد السكان الأصليين، بل وأضفى عليه أحيانًا صبغة من المشروعية.
أما عن المفهوم الشكلي لسيادة القانون، فإنه لم يكن أحسن حالًا من حيث فاعليته في الإمبراطورية البريطانية. فالتصور الأكثر هشاشة للعقيدة هو ما يعرف بـ"الحكم بالقانون"، أي مجرد استخدام القانون كوسيلة لإدارة الدولة دون أن يقيد سلطتها أو يحمي حقوق الأفراد من طغيانها. وهكذا أصبح "الحكم بالقانون" مجرد ذريعة للهيمنة الحكومية، حيث كان تعليق القانون المدني واستبداله بالقانون العسكري أمرًا معتادًا يُمارس لقمع الحريات المحدودة أصلًا في المستعمرات. وتاريخ الإمبراطورية يزخر بأمثلة لهذا الاستبداد، حيث لجأ البريطانيون إلى القانون العسكري في قمع الثورات الشعبية، بدءًا من تمرد العبيد في ديميرارا عام 1823، ومرورًا بالثورة الهندية الكبرى عام 1857، وصولًا إلى تمرد الماو ماو في كينيا في منتصف القرن العشرين.
ومع كل هذا العوار الذي أصاب عقيدة سيادة القانون، جاءت المفارقة الكبرى في القرن العشرين، حين استغل المناهضون للاستعمار ذات العقيدة التي طالما استخدمتها بريطانيا ذريعةً للهيمنة، ليجعلوا منها أداة إدانة لحكمها. وقد وصفت الحركات التحررية تلك الممارسات الاستعمارية بأنها "غير بريطانية"، وأطلقت عليها مصطلح "القانون غير القانوني"، كاشفة بذلك نفاق الاستعمار وازدواجيته. وبينما رأى بعض المناهضين أن سيادة القانون لم تكن سوى غطاء للاستغلال الرأسمالي، لجأ آخرون إلى توظيف المفهوم نفسه في نضالهم، سواء للمقاومة أو التعاون أو حتى تقويض النظام الاستعماري.
وقد كان إي. بي. طومسون، المؤرخ الماركسي الذي انتقد القانون بوصفه أداة لاستدامة علاقات القوة الطبقية، ممن أقرّوا بقيمة سيادة القانون، واعتبروا أنها إنجاز ثقافي بالغ الأهمية. ففي كتابه "الويغز والصيادون" (1975)، مجّد طومسون سيادة القانون، مشيرًا إلى أن قادة النضال في الهند، أمثال المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، قد استخدموا هذا المفهوم في كفاحهم من أجل الاستقلال. غير أن النقاد يذكّروننا بأن استخدام المستعمرين للمطالبة بسيادة القانون لم يكن نابعًا بالضرورة من إيمانهم بها، وإنما كان خطوةً استراتيجية لكسب الشرعية لقضاياهم.
وهكذا، يُلاحَظ أن اختيار مناهضي الاستعمار اليوم للجوء إلى خطاب سيادة القانون في حركاتهم، وإن بدا في ظاهره اختيارًا تكتيكيًا بحتًا، يحمل بين طياته دلالات على استمرارية التمسك ببعض المبادئ العليا المرتبطة بهذا المفهوم. وعلى الرغم من انغماس هذا الخطاب في واقع يعكس تواطؤًا مع الأنظمة الرأسمالية الليبرالية، فقد صار رمزًا يختزل العدالة والمساواة والديمقراطية، وهي ذات الأهداف التي اجتهدت حركات التحرر في القرن العشرين لتحقيقها.
إن إرث هذا المبدأ يستمر اليوم، ممتدًا ليشمل أجندات الاستعمار والمناهضة للاستعمار في القرن الحادي والعشرين. فقد تحول تعزيز سيادة القانون إلى صناعة عالمية تدر مليارات الجنيهات الإسترلينية، وأضحت المساعدات التنموية الدولية مشروطة بامتثال دول ما بعد الاستعمار لمتطلبات هذا المبدأ، مما يعزز الهياكل الإمبريالية الجديدة على المستوى العالمي. وفي ذات السياق، تتجه حركات المقاومة في بلدان الجنوب العالمي إلى تسخير هذا المفهوم ذاته، ليس فقط لتحدي الهيمنة الرأسمالية العالمية، ولكن أيضًا لإدانة أشكال الاستغلال المتعددة التي تتعرض لها.
مترجم من Aeon بقلم Kanika Sharma
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي