في صيف عام 2022، أطلقت شركة إعلامية تُدعى "نامافا" – وهي تمثّل، إن أردنا الدقة، النظير الإيراني لشركة "نتفليكس" العالمية – مسلسلًا مثيرًا بعنوان شبكة سرية للنساء. وقد امتزج فيه الواقع بالخيال، حيث ظهرت شخصيات تاريخية حقيقية إلى جانب أخرى متخيّلة، في أسلوب سردي يذكّر بما كان يفعله الروائي الأمريكي إي. إل. دكتورو، الذي كان يحب أن يدمج شخصيات واقعية في أعماله الخيالية ليمنح القارئ إحساسًا بالحقيقة داخل الخيال.
تخيّل صنّاع المسلسل أن حكومة بهلوي الأولى، وتحديدًا عام 1931، أنشأت منظمة نسائية ظاهريًا تهدف إلى "تمكين المرأة"، بينما يتضح لاحقًا أن الغرض الخفي كان عكس ذلك تمامًا: إقصاء النساء عن المجال السياسي لا ضمّهن إليه، عبر منحهن أدوارًا سطحية أو رمزية.
ومن أكثر ما أثار الدهشة في المسلسل ظهور شخصية المترجم الإيراني الشهير ذبيح الله منصوري. يظهر في أحد المشاهد فجأة، يتحدث عن فكرة يسميها "فلسفة التوسّع في الترجمة"، ويدخل في حوار غريب مع إحدى الشخصيات، ثم يختفي كما لو كان شبحًا مرّ بالخاطر واختفى. واللافت أن الكُتّاب لم يتكلفوا عناء تقديمه أو تعريف المشاهد به، لأنهم يفترضون أن كل إيراني يعرفه، حتى أولئك الذين لا يقرؤون إلا عناوين الكتب.
وهذا في حدّ ذاته أمر يستحق التأمل؛ فالمترجمون عادةً لا يُعدّون من المشاهير، ولا ينالون نصيبًا من الضوء كالذي يناله الكتّاب أو الروائيون. إلا أن منصوري ظلّ حاضرًا في الذاكرة الثقافية الإيرانية، على الرغم من أنه رحل منذ أكثر من أربعين عامًا. وتكاد شهرته تصبح جزءًا من نسيج الثقافة الشعبية، لا يسأل الناس كيف نشأت، لأنها ببساطة صارت أمرًا مألوفًا.
وحين نتأمل ما قدّمه هذا الرجل في مسيرته الطويلة، نفهم أن هذه الشهرة لم تكن مصادفة، بل تُخفي دروسًا عميقة، خاصة في زمننا المعاصر الذي شاعت فيه أدوات الترجمة الآلية، حتى خُيّل لبعض الناس أن دور المترجم قد انتهى، وأنه صار شيئًا من الماضي. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فالمترجم لا ينقل المعنى فقط، بل يعيد تشكيله أحيانًا، ويبتكر طريقة جديدة لرواية النص، كما فعل منصوري.
أما عني، فقد كان لقائي الأول بأعمال منصوري في طفولتي، في مدينة الأهواز، وهي عاصمة محافظة خوزستان جنوب إيران، القريبة من الحدود العراقية والغنية بالنفط. كنت طفلًا صغيرًا حين اندلعت الحرب بين العراق وإيران في سبتمبر عام 1980، بعد بضعة أشهر فقط من ولادتي. وكانت خوزستان هدفًا مبكرًا في تلك الحرب، فاشتد القصف، وطالت المعارك، واضطررنا إلى العيش في الملاجئ أو تحت السلالم، هربًا من القنابل التي لا تنذر، والصواريخ التي لا ترحم.
وحين وضعت الحرب أوزارها في عام 1988، خرج الناس من عزلتهم الطويلة، كأنما يعودون إلى الحياة من بعد غياب. بعضهم أقام حفلات، وآخرون سافروا أو قصدوا دور السينما. أما عائلتي، فلم تفعل شيئًا من ذلك، لكنها كانت تسكن قرب مكتبة صغيرة، أنشأتها شركة النفط الوطنية لموظفيها. كنت أذهب إليها لإنجاز واجباتي المدرسية بعيدًا عن صخب إخوتي الثلاثة، وأحيانًا، حين أملّ من الدراسة، كنت أتناول كتبًا من الرفوف لأتسلى بها، لا بدافع حب المعرفة، بل لأستمتع ببعض الوقت.
في تلك الأيام، لم يكن أحد من أهل بيتي، أو حتى من الجيران، يهتم بالقراءة. ولم يكن الإنترنت قد دخل بيوتنا بعد. وحين نظرت إلى رفوف المكتبة، لم أكن أعرف الفرق بين كاتب وآخر، ولا أميز الأدب الجيد من الرديء، ولا الترجمة الدقيقة من المشوشة. فكان حكمي على الكتب قائمًا على الكمّ لا على النوع؛ كلّما تكرّر اسم كاتب، ظننت أنه الأكثر أهمية.
وفي أحد الأيام قررت أن أمشي على مهل بين الرفوف، وأحصي الأسماء التي تكررت. وكانت النتيجة قاطعة في نظري آنذاك: لم يكن هناك اسم يضاهي اسم ذبيح الله منصوري. كانت كتبه تملأ الأرفف، وتغمر المكان، وكأن المكتبة بُنيت من أجله. هيبته بين تلك الكتب تفوقت – في نظري الطفولي – على أولئك الكُتّاب الأصليين الذين ترجم عنهم.
لم يكن إعجابي بذبيح الله منصوري في صغري مجرد انبهار طفل بكثرة الكتب التي تحمل اسمه، بل كان شعورًا صادقًا عبّرت عنه سنوات لاحقة من شهرة الرجل وانتشاره الواسع في الثقافة الإيرانية. فقد توفي منصوري عام 1986، إلا أن أثره ظل حاضرًا بوضوح. كانت ترجماته، التي تناولت فنون الأدب والعلم والتاريخ، لكتّاب مثل ألكسندر دوماس وستيفان زفايج وهنري كوربان وموريس ماترلينك، تُقرأ في كل بيت تقريبًا، تمامًا كما تُقرأ دواوين شعراء الفرس الكبار كحافظ وسعدي وفردوسي. ولم تكن كتبه هذه مقتصرة على طهران، بل امتد حضورها إلى أطراف البلاد كلها، خاصة في سنوات الحرب الطاحنة خلال الثمانينيات، عندما كانت الكهرباء تنقطع كثيرًا، ويغمر الظلام البيوت، ويغلب الإحباط والخوف، فكان الناس بحاجة إلى شيء يملأ فراغهم، ويُنسيهم الخوف والموت والخراب. وهنا، جاءت كتب منصوري، التي نُشرت أولًا على شكل حلقات في المجلات ثم جُمعت لاحقًا في مجلدات، فملأت هذا الفراغ وأصبحت من أكثر الكتب تداولًا ومبيعًا.
وكان الإقبال على مؤلفاته هائلًا، إذ كانت تُطبع بعشرات الآلاف من النسخ، بينما كانت معظم الكتب الأخرى تُطبع بعدد محدود لا يتجاوز بضعة آلاف. ثم ما تلبث أن تُباع جميعها بسرعة، فيسارع الناس إلى اقتنائها، ويخزنها البعض، ويبيعها من جديد بأسعار مضاعفة، مستغلين شحّها. وقد شكّلت هذه الكتب مدخلًا مهمًا إلى عالم القراءة لشرائح واسعة من الناس، لا سيما لمن عاشوا في مناطق نائية عن مركز الثقافة في طهران، كما هو الحال بالنسبة لي شخصيًا.
وكان منصوري، من ناحية أخرى، امتدادًا لتقليد ثقافي إيراني قديم في الترجمة بدأ مع بدايات القرن التاسع عشر، في أعقاب الهزائم العسكرية التي لحقت بإيران في حروبها مع روسيا، والتي فقدت فيها مناطق واسعة كجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. عندها أدرك وليّ العهد آنذاك، عباس ميرزا، أن سبيل النهضة يكمن في التعلم من الغرب، وأن الوصول إلى معارفه لا يكون إلا بترجمة كتبه. فبدأت حركة واسعة لترجمة المؤلفات الغربية إلى الفارسية، بدأت بالكتب العسكرية، ثم توسعت لتشمل كتب التاريخ والأدب والفلسفة، حتى أصبح للمترجمين دور محوري في مشروع النهضة الإيرانية. وقد استمرت هذه الحركة حتى بلغت ذروتها في زمن منصوري، الذي لم يكن له نظير من حيث الشهرة والإنتاج الغزير.
لكن يبقى السؤال: كم عدد الكتب التي ترجمها منصوري؟ لا أحد يمكنه الجزم بذلك. فقد قضى سنوات طويلة يعمل في مجلات لم يُكتب لها البقاء، وكان ينشر فيها نصوصًا على هيئة حلقات متتابعة، ففُقد كثير منها. وفي لقاء نادر أُجري معه أواخر حياته، ادّعى أنه ترجم ألفًا وأربعمائة كتاب. وكان هذا رقمًا يصعب تصديقه، إذ عرف عن الرجل ميله للمبالغة. إلا أن رئيس تحرير إحدى المجلات الكبرى التي نشرت له كثيرًا من أعماله، وهو علي بهزادي، قال إنه كان يسلّم ما يقارب 140 ألف كلمة شهريًا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مسيرته امتدت قرابة ستين عامًا، فإن رقمه ذاك لم يعد يبدو مستحيلًا.
غير أن هناك حقيقة لا بد من الاعتراف بها: هل كان منصوري "مترجمًا" كما نفهم الترجمة اليوم؟ إن الإنصاف يفرض علينا أن نقول: لا. فالرجل لم يكن يترجم النصوص بدقة، بل كان يستخدم النص الأصلي كمنطلق لبناء نص جديد. كان يأخذ الفكرة العامة، ثم يضيف من عنده ما يشاء، ويحذف ما لا يعجبه، ويغيّر في الأسلوب والمضمون، حتى يخرج للقارئ بنصّ يصعب معرفة أين يبدأ الأصل وأين تنتهي الإضافة. بل إن بعض الكتب التي نُشرت باسمه بوصفها "ترجمات"، لم يكن لها أصل أجنبي أصلاً، وإنما كتبها هو من بدايتها، ثم نسبها إلى مؤلفين وهميين بأسماء فرنسية. فهل يمكن القول إن الرجل كان محتالًا؟ ربما، لكنّ الأكيد أنه كان "محتالًا موهوبًا"، جمع بين موهبة الكتابة والخيال، ومهارة السرد، فكان أديبًا ومؤلفًا ومترجمًا في آنٍ واحد.
وُلد ذبيح الله منصوري عام 1897 في مدينة سنندج، وكان أكبر إخوته الثلاثة. كان والده موظفًا حكوميًا، ووالدته تنحدر من عائلة دينية مرموقة في منطقة جيلان. وقد درس في مدرسة "الأليانس فرانسيز"، وهي مدارس أسّسها الفرنسيون في عدة مدن لنشر ثقافتهم ولغتهم. ثم، حين انتقلت أسرته إلى مدينة كرمانشاه، تعرّف منصوري إلى طبيبٍ كان يجيد الفرنسية، فتتلمذ عليه حتى أجادها إجادة تامة، وكانت تلك الخطوة الأولى في مسيرته مع الترجمة.
ولم تمضِ سنوات كثيرة حتى انتقلت عائلة ذبيح الله منصوري إلى طهران، وهناك، فجأة، توفي والده، فانقطع حلمه الطفولي بأن يصبح بحّارًا، واضطر إلى تحمّل مسؤولية إعالة أسرته. ولم يكن في جعبته من مؤهلات سوى إتقانه للغة الفرنسية. وفي عام 1929، التحق بالعمل في صحيفة جديدة تُدعى "كوشِش"، وكُلّف بترجمة روايات الجريمة والعاطفة من الفرنسية، لتُنشر على حلقات متتالية. وهكذا بدأت رحلته الطويلة مع الترجمة، تلك الرحلة التي ظلّ يسير فيها حتى آخر عمره.
وبعد أن لاقت إحدى ترجماته نجاحًا كبيرًا، انهالت عليه العروض من المجلات والصحف، ويبدو أنه لم يرفض أيًّا منها. فكان يترجم من الفرنسية والإنجليزية، يعمل ساعات طويلة بلا كلل، يكتب عددًا ضخمًا من الصفحات، تُنشر في مجلات على شكل فصول، ثم تُجمع لاحقًا في كتب، وتصل إلى المكتبات الشعبية، مثل تلك التي كانت موجودة في حيي، فتؤثر في حياة أطفال كثر، كما أثرت في طفولتي.
وسرعان ما خرج منصوري من دائرة الروايات الرخيصة ذات الطابع العاطفي الساذج، والتي بدأ منها، وانفتح على آفاق أوسع وأكثر عُمقًا؛ فترجم كتبًا في مجالات العلم والتاريخ، ثم غاص في الفلسفة. وصار اسمه جزءًا من حياة الناس اليومية، لا سيما من خلال كتبه العلمية المبسّطة، التي كانت تُعرض بأسلوب قريب من العامة، وتفسّر المعلومات الصعبة بلغة مألوفة. ومن أشهرها ترجمته لكتاب حياة النحلة للمؤلف البلجيكي موريس ماترلينك، والتي نُشرت على شكل حلقات في مجلة أسبوعية. وقد كانت هذه الحلقات تُباع بشغف شديد، حتى أن الناس كانوا يصطفون أمام أكشاك الجرائد كل أسبوع كأنهم ينتظرون خبزًا في وقت المجاعة، في بلدٍ لم يكن فيه القادرون على القراءة والكتابة إلا قلّة.
ويُحكى أن منصوري، حين أصيب بوعكة صحية ذات يوم، ولم يتمكّن من إرسال الحلقة الأسبوعية للمجلة، تلقى اتصالًا هاتفيًا مباشرًا من القصر الملكي. كان المتصل هو رضا شاه، ملك البلاد نفسه، ليسأله عن سبب غياب الحلقة، ومتى سيكون الجزء التالي جاهزًا للنشر! وهذا وحده يكفي ليُبيّن مكانة الرجل وتأثيره في وجدان الناس.
وبلغ نشاط منصوري ذروته في سبعينيات القرن الماضي، إذ كان يعمل مع نحو عشرين صحيفة ومجلة في آنٍ واحد، وفي بعضها كان يكتب أكثر من مقالين في كل عدد. ومن أبرز هذه المجلات "خواندنيها"، التي كانت تنشر له أسبوعيًا أعمدة طويلة مليئة بالأفكار والمفردات. وقد خصّه صاحب المجلة بغرفة صغيرة في علّية الطابق الخامس، وسط طهران، اتخذها مكتبًا له، وكانت بمثابة ملاذه اليومي في السنوات الأخيرة من حياته.
أما هذه العلّية، فكانت غرفة ضيقة تخنق الأنفاس، مزدحمة بالكتب والمجلات الفرنسية، ومملوءة بأكياس كبيرة من الأوراق، كأنها مستودع أكثر من كونها مكتبًا. ورغم ذلك، كان منصوري يتوجه إليها كل صباح في تمام الساعة الثامنة، مرتديًا بدلته الرسمية كما لو كان ذاهبًا إلى مقابلة رسمية في قصر حكومي. لم يكن يغادرها إلا لساعة غداء أو نزهة قصيرة، ثم يعود إلى عمله حتى المساء.
وكان لا يزال يستخدم في الكتابة أقلام الحبر الفرنسية القديمة، لأنه اعتاد الإمساك بها من الأعلى دون الضغط على رأسها، توفيرًا للجهد. وكان يكتب على أوراق مسطرة، مقطوعة إلى نصفين، بحيث يكتب عرضيًا على الصفحة دون الحاجة إلى تحريك كامل ذراعه، مكتفيًا بتحريك يده من الأعلى إلى الأسفل فقط؛ وهي طريقة ذكية لتقليل الإرهاق الجسدي أثناء الكتابة.
لكنّ أكثر ما يثير الانتباه في حياة ذبيح الله منصوري، إلى جانب اجتهاده، هو حرصه الشديد على خصوصيته. فقد كانت صوره نادرة، ولم يُعرف الكثير عن زوجته التي تزوّجها في سن متأخرة، ولا عن ولديه اللذين أنجبهما وهو في الستين من عمره. عاش أغلب عمره في شقة صغيرة مستأجرة في جنوب طهران، ولم ينتقل إلى سكنٍ أكثر راحة إلا في سنواته الأخيرة، حين حصل على شقة ضمن مجمع سكني خصصته الدولة للكتّاب والفنانين، وذلك عن طريق قروض ميسّرة.
والمفارقة أن هذا الرجل، الذي بيعت كتبه بعشرات الآلاف، حتى ظهرت نسخها في السوق السوداء – أي بأسعار مرتفعة خارج القنوات الرسمية – مات فقيرًا. فقد عاش طوال حياته معتمدًا على دخله الشهري فقط. ولم يحصل على أيّ من حقوق النشر، لأنه كان يضطر، بسبب ضيق الحال، إلى بيع مقالاته مع حقوق إعادة النشر كاملة، بما في ذلك حق تحويلها إلى كتب. ولم يحظَ بأي تأمين صحي أو ضمان اجتماعي إلا في أواخر أيامه، حين التفتت إليه نقابة عمّال الطباعة، ومنحته دعمًا بسيطًا وفاءً له على دوره في نشر الثقافة المطبوعة في البلاد.
غير أن السؤال الجوهري في مسيرة منصوري يبقى: ماذا قدّم فعليًا للثقافة الإيرانية؟ هل كان مترجمًا حقًّا؟ أم أنه كان شيئًا آخر؟ لا شك أن ما قدّمه لا ينطبق عليه مفهوم "الترجمة الأمينة" للنصوص الأجنبية. وخير مثال على ذلك ترجمته لرواية لوليتا للكاتب الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف.
في النسخة الأصلية، يبدأ نابوكوف روايته بجمل شهيرة يقول فيها:
لوليتا، نور حياتي، نار أحشائي. خطيئتي، روحي. لو-لي-تا: طرف اللسان يقوم برحلة من ثلاث خطوات نزولاً من سقف الحنك، لينقر، عند الثالثة، على الأسنان. لو. لي. تا.
ثم يصف البطلة قائلاً:
كانت "لو" في الصباح، فتاة قصيرة بطول 148 سنتيمترًا، تلبس جوربًا واحدًا. وكانت "لولا" حين ترتدي السروال. و"دولي" في المدرسة. أما بين ذراعيّ، فكانت دومًا "لوليتا".
لكن هل ترجم منصوري هذه الجمل كما هي؟ الواقع أنه أعاد كتابتها بأسلوبه الخاص، بل في أحيان كثيرة كتب شيئًا مختلفًا تمامًا ثم نسبه إلى نابوكوف. وفي "قراءات كانوية"، كانت هذه محاولة لإعادة ترجمة ما ورد في نسخة منصوري، لا من الفارسية، بل مباشرة من النص الإنجليزي:
أنتِ، يا لوليتا — نور عمري، وسند خطاي. بدونكِ، ما كنت لأقدر أن أحرّك ذراعيّ. لوليتا! إذا نطقتُ اسمكِ، يرتجف طرف لساني ثلاث رجفات، ويرتطم بأسناني، ويهتزّ كياني كله — آه يا لوليتا، أين ذهبتِ؟ ولماذا غبتِ عن ناظري؟
ثم يُضيف في وصف تعدد أسمائها:
كان اسمها يختلف حسب وقت النهار. في الصباح تُسمى "لو"، لصِغرها. وحين ترتدي البنطال تُدعى "لولا"، لأن الكلمة في بعض الولايات الأمريكية تُطلق على البنطال. أما في المدرسة فكانوا ينادونها "دولي"، ولا سبب واضح لذلك، فالأمريكيون مولعون بالألقاب العشوائية. ألم يكن الرئيس أيزنهاور يُعرف بـ"آيك"، من غير سبب معلوم؟. لكن بين ذراعيّ، كانت دومًا "لوليتا".
ويبدو واضحًا أن منصوري لم يكن يلتزم بدقة الأسلوب الذي كتبه نابوكوف بعناية بالغة. بل كان يُعيد صياغة الجمل، ويُضيف إليها شرحًا وتفسيرًا، حتى يُقرّبها من القارئ العادي، أو ذاك الذي لم يتعمق كثيرًا في القراءة. ولم يُخفِ هذا النهج، بل صرّح به في مقدمة الترجمة، حين قال: "لو ترجمت هذا الكتاب كما هو، فلن يفهم القارئ الفارسي صفحة واحدة منه." ولهذا حافظ على هذا الأسلوب طوال الترجمة، حتى تضخم النص ليصل إلى سبعمائة صفحة، أي ما يزيد على ضعف حجم الرواية الأصلية.
وكان هذا الأسلوب جزءًا من فلسفته في الترجمة، لا استثناء عارضًا. فقد كان يرى نفسه في خدمة القارئ، لا خادمًا أمينًا للنصوص. وحرص دومًا على أن تصل كلماته إلى من لم يحظَ بتعليم عالٍ. ومن أجل ذلك، استخدم أحيانًا ألفاظًا عامية، وترك في النص أخطاءً لغوية متعمَّدة، حتى يُشبه أسلوبه حديث الناس في الشوارع والأسواق. بل كان يكتب في هوامش النسخ التي يرسلها للمحررين ملاحظات يقول فيها ما معناه: "أعلم أن هذه العبارة غير صحيحة لغويًا، لكنها شائعة بين الناس، وأحب أن أُبقيها."
بل إن رواية لوليتا، رغم ما فيها من تغيير واضح، تُعد مثالًا خفيفًا لما كان يفعله ذبيح الله منصوري من تعديل وتصرّف. ففي ترجماته الأخرى، كان يُطلق العنان لخياله دون أي التزام بالنص الأصلي. ولعل أبرز ما يُظهر هذا الأسلوب ما فعله في ترجمته لروايات ألكسندر دوماس، الروائي الفرنسي المعروف بروايات المغامرات التاريخية مثل الفرسان الثلاثة.
كان منصوري مولعًا بقصص القصور الفرنسية، فكان حين يترجم، لا يلتزم بالسرد كما هو، بل يُضيف حكايات جانبية ويستطرد كثيرًا، حتى تمتد هذه الاستطرادات لعشرين صفحة أحيانًا قبل أن يعود إلى صلب الرواية. ولهذا السبب، أصبحت ترجمته لـالفرسان الثلاثة، التي لا تتجاوز في أصلها نحو ستمائة صفحة، عملًا ضخمًا يتجاوز ستة آلاف صفحة، نشرت في عشرة مجلدات. وقد قرأ الكاتب هذه المجلدات حين كان صبيًّا، وقضى صيفًا كاملًا في مطالعتها من أولها إلى آخرها.
والأعجب أن منصوري لم يقتصر في هذا الأسلوب على الروايات الأدبية، بل طبّقه أيضًا في الكتب التاريخية والعلمية. لنأخذ على سبيل المثال ترجمته لسيرة ستالين السياسية التي كتبها المؤرخ المعروف إسحاق دويتشر. كتب عنها المترجم كريم إمامي مقالًا بعنوان ظاهرة ذبيح الله منصوري. في مستهلّ الكتاب الأصلي، يقول دويتشر:
ربما في عام 1875، أو قبل ذلك بعام أو عامين، غادر شاب قوقازي يُدعى فيساريون دجوغاشفيلي قرية ديدي-ليلو، بالقرب من تبليسي، ليستقر في بلدة جورجية صغيرة تُدعى غوري.
أما منصوري، فقد اختار أن يفتتح الترجمة بهذه الكلمات:
في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1879، وفي بيت متواضع ببلدة صغيرة قرب غوري في جورجيا، بدأت امرأة شابة في العشرين من عمرها تشعر بآلام الولادة.
ولا رابط بين هذين المدخلين سوى اسم البلدة "غوري". ففي رواية دويتشر، تتابع القصة مشوار والد ستالين حين ترك قريته ليعمل صانع أحذية في بلدة أكبر، وهناك تزوّج من فتاة ريفية فقيرة لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها. وقد أنجبت هذه الزوجة ثلاثة أطفال تُوفّوا عند الولادة، ثم جاء مولود رابع حي، أُطلق عليه اسم "جوزيف"، وهو من سيُعرف لاحقًا باسم ستالين.
لكن منصوري لم يجد في هذه البداية ما يرضيه، فتجاوز الحديث عن الأب، وبدأ مباشرة بمشهد ولادة ستالين، مضيفًا تفاصيل من وحي خياله: وصف آلام الولادة، تجمع الجارات، والحوارات التي دارت بين النساء، مثل سؤال الأم عن من يجب استدعاؤها لتوليدها، فيُقال لها: "مارثا". مع أن اسم القابلة لم يُذكر في الكتاب الأصلي، ولا يُعتقد أنه ورد في أي مصدر تاريخي.
ومن هنا نفهم كيف كان عقل منصوري يعمل. فهو يعرف جمهوره جيدًا، ويُدرك أن القراء قد لا يطيقون صبرًا لقراءة سيرة أب فقير يتنقل من قرية إلى أخرى، ولكنهم حتمًا سيتابعون بشغف مشهدًا مليئًا بالتفاصيل العاطفية عن أمٍّ تتألم بعد ثلاث ولادات فاشلة. ولذلك، كان يضيف أحداثًا من خياله إذا رأى أن النص الأصلي يفتقر إلى التشويق. وإذا شعر أن الكاتب الأصلي لم ينجح في إثارة القارئ، تدخّل هو ليُعوّض ذلك بأسلوبه الخاص.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: كيف ظل يفعل هذا لسنوات دون أن يُحاسب؟ والحقيقة أن كثيرين انتبهوا إلى هذه التصرّفات، ووجّهوا له اتهامات عديدة بأنه لا يترجم، بل يختلق. لكنه كان يعرف كيف يُراوغ، وكان لديه أسلوب خاص في التهرب من المواجهة. فقد كانت الكتب الأصلية نادرة في إيران في ذلك الزمان، والحصول على نسخة منها يتطلب غالبًا صديقًا في فرنسا يبحث عنها في المكتبات. خاصة أن المنصوري كان يختار مؤلفين غير مشهورين يصعب تعقب آثارهم. فإذا جاءه أحدهم يطلب نسخة من الأصل، أجابه بحفاوة ووعده أن يرسلها، ثم لا يفعل. وإذا عاد السائل ليسأل مرة أخرى، كرر الوعد نفسه، وواصل التسويف حتى ييأس صاحب الطلب.
وهكذا، استطاع منصوري أن يتملّص في إحدى المرات من استفسار جاءه من أمير عباس هويدا، رئيس وزراء إيران آنذاك، وكان رجلاً مثقفًا يجيد اللغة الفرنسية. فقد أوكل هويدا إلى أحد مساعديه مهمة التواصل مع محرر مجلة تنشر ترجمات منصوري، وطلب منه استخراج النص الفرنسي الأصلي الذي اعتمد عليه. إلا أن منصوري ماطل في الرد، وتهرّب من الطلب، حتى نُسي الموضوع كأن لم يكن.
وفي مناسبة أخرى، حين ترجم كتابًا عن أحد أئمة الشيعة الاثني عشرية، وهو أحد كبار العلماء الدينيين لدى الشيعة، طالبه أحد القرّاء بإبراز النسخة الأصلية للكتاب. فلما تردد منصوري، هدده الرجل باللجوء إلى المحكمة. فما كان منه إلا أن أرسل إليه بعض الكتيّبات القصيرة، ومقالة مكتوبة باللغتين الألمانية والروسية، وهما لغتان لم يكن ذلك القارئ يعرفهما، فأغلق الباب أمامه بتلك الحيلة الذكية.
بل إن هناك مواقف كادت تنكشف فيها حيله تمامًا. فقد روى المؤرخ محمد إبراهيم باستاني باريزي حادثة من أغرب ما كُتب عن منصوري. ففي عام 1982، أصدر منصوري كتابًا يقع في أربعمائة صفحة عن الفيلسوف المسلم صدر الدين الشيرازي، وهو من أعلام الفكر الإسلامي في القرن السابع عشر ويُعدّ من كبار فلاسفة إيران بعد ابن سينا. وكان منصوري قد نسب هذا الكتاب إلى الفيلسوف الفرنسي الشهير هنري كوربان، الذي كان من أبرز المتخصصين الغربيين في الفلسفة الإسلامية والتصوّف الشيعي. طُبع الكتاب وبيع على نطاق واسع في إيران، حتى أصبح من أكثر الكتب مبيعًا في ذلك العام.
وبعد عدة أشهر، زار هنري كوربان إيران. وحين ألقى إحدى محاضراته، اقترب منه بعض الحاضرين بعد انتهائها، وأثنوا عليه بسبب كتابه عن الشيرازي، وتحدّثوا عن إعجابهم بما وجدوه فيه من فائدة ومتعة. عندها ارتبك كوربان، وسألهم في تردد: "عن أي كتاب تتحدثون؟ لم أكتب شيئًا عن صدر الدين الشيرازي." فناولوه نسخة من الكتاب، فتصفحها مدهوشًا، كمن يرى كابوسًا لا يعرف له تفسيرًا.
حينئذ بدأ كوربان في البحث عن هذا المترجم الغامض. وساعده في ذلك باستاني باريزي، الذي توجه إلى غرفة صغيرة أعلى بناية قديمة في شارع فردوسي، في وسط طهران، حيث كان منصوري يزاول عمله. وأخبره أن هنري كوربان يريد مقابلته.
فما إن سمع منصوري ذلك حتى ارتبك وظهر عليه الذهول، ثم سأل: "أهو حيّ؟ أحقًا كوربان لا يزال على قيد الحياة؟"
فأجابه باستاني بابتسامة العارف: "بالطبع! ألم تسمع بذلك من قبل؟"
فأطرق منصوري برأسه، وقال بصوت هادئ تختلط فيه المرارة بالمكر: "إذن، فقل له إن ذبيح الله منصوري قد مات."
وقد يظن القارئ أن مثل هذه الحادثة، بغرابتها وجرأتها، كانت كفيلة بالقضاء على مسيرة منصوري، أو على الأقل بوقفه عن مواصلة نشاطه في التأليف والترجمة. لكنها لم تفعل. خرج من هذه الأزمة كما خرج من غيرها، سليمًا لا يمسّه نقد، وكأن حوله درعًا يحول بينه وبين أي حساب.
والتفسير الأقرب إلى المنطق، أن جمهور منصوري لم يكن مشغولًا بهذه الأسئلة أساسًا. لم يكن أحد يسأله عن صدق ترجماته، أو عن مدى معرفته باللغة الفرنسية، أو عن التزامه بالأمانة في النقل. كانوا يقرؤون كتبه ويستمتعون بها، وهذا كان يكفي. حتى المحررون الذين يعمل معهم لم يكونوا يطلبون منه دقة الترجمة، بل كانوا يقدّرون شعبيته ونجاحه في جذب القراء، فتركوا له الحبل على الغارب.
توفي ذبيح الله منصوري في يونيو عام 1986، بعد أن خلّف وراءه إرثًا معقدًا، تتضارب الآراء بشأنه. قال عنه المؤرخ باريزي: "لا أستطيع أن أعدّه مؤرخًا، لكنني لا أستطيع أيضًا أن أتجاهل كتبه." ثم فرّق بين من يدوّن التاريخ بحثًا عن الحقيقة، ومن يروي الحكايات لغاية المتعة، وقال إن منصوري كان من الفريق الثاني، وقد تفوّق فيه بامتياز.
أما الشاعر والناقد رضا براهني، فقد كان ينتقد أسلوب منصوري، لكنه لم يُخفِ إعجابه به. فقال عنه: "بعبقريته الغريبة، يأخذ القارئ التائه إلى حيث لا مكان، ويُشبع فيه حاجاتٍ دفينة لا يُفصح عنها."
ثم، بعد خمس سنوات، صدرت مجلة بعنوان بيام كتابخانه، أي "رسالة المكتبة"، ودعت عددًا من المثقفين إلى أن يكتبوا عن ذبيح الله منصوري. فكتبوا مقالاتٍ اتسمت بالتحفّظ، كما لو أنهم يشعرون بشيء من الحرج. وكان عنوان الملف كاشفًا عن جوهر التساؤل: "ذبيح الله منصوري: خيانة أم خدمة؟" لكن هذه المقالات لم تقدّم جوابًا قاطعًا. فقد أثنى الباحث جلال الدين كزازي على مؤلفاته، وذكر كيف أثّرت فيه حين قرأها في شبابه، ثم عاد ليحذّر من خطورتها، فقال: "هذا النوع من الترجمة يُشكّل تهديدًا على لغتنا وثقافتنا." أما الكاتبة ليلى گلستان، فقد وصفته بلطف، وأشادت باجتهاده، وقالت إنه قرّب عامة الناس من عالم القراءة، لكنها تمنّت لو قدّم نفسه ككاتب صريح، لا كمترجم يُوهم بالالتزام الحرفي.
ومرت الأعوام، فخفتَ الحديث حول مؤلفات منصوري بعض الشيء، لكنه لم ينطفئ تمامًا، بل ظل حاضرًا في مجالس المثقفين، يعود إلى النقاش بين فترة وأخرى. وبعد قرابة عشرين عامًا على وفاته، كتب الصحفي علي أكبر غازي زاده مقالًا لافتًا في صحيفة شرق، حاول فيه أن يُقارب إرث منصوري من زاوية جديدة، فقال: "من أراد أن يفهم ذبيح الله منصوري، فعليه أن يتصوره لا كشخص واحد، بل كثلاثة أشخاص مجتمعين في رجل واحد." فقد كان أولًا مترجمًا، لكنه لم يكن دقيقًا، ولذلك لا يمكن اعتباره مترجمًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. وكان ثانيًا مزيِّفًا، لأنه ألّف كتبًا كاملة من خياله، ثم نسبها إلى مؤلفين أجانب معروفين، وزعم أنها ترجمات، وهي من تأليفه. وثالثًا، كان يطلق على نفسه لقب "المعدِّل"، أي من يعيد صياغة النص بأسلوبه، وكان يضع هذا اللقب في صدر بعض مؤلفاته. وكان رابعًا، كاتبًا متخفيًا، يكتب بأسماء مستعارة، فتُنسَب كتبه إلى غيره وهي من صنع يده.
ولم يكن وصف منصوري بالمزوِّر أو منتحل الأدب أمرًا هيّنًا على المثقفين. فهم، رغم نقدهم لطريقته، لم يستطيعوا أن يُنكروا تأثيره العميق في وجدانهم. بل إن كثيرًا منهم، وإن لم يصرّح، يعترف في داخله أنه قرأ كتبه بشغف في فترة من فترات حياته، وتأثّر بصوته، ذاك الصوت المتفرّد الذي لا يشبهه في الكتابة الفارسية صوت آخر.
وأما أنا، فإن أردت الصراحة، فإني أُردد ما يقوله الآخرون، ثم أزيد عليه: إن نثر منصوري، حين أقرأه اليوم بعد طول انقطاع، يبدو لي أجمل مما بدا لي في السابق. فلأسلوبه نغمة خاصة، تجمع بين الرقة والحزم، وفيها خليط من البلاغة الشعبية والمبالغة الدرامية. كلماته مألوفة، وعباراته سهلة لا تحتاج إلى جهد لفهمها، لكنه يعرف كيف ينظم الجمل، ويُقدّم ويُؤخر، ويشدّ القارئ حينًا ويُريح ذهنه حينًا آخر، ويعرف متى يلتزم بالنص الأصلي ومتى يبتعد عنه ثم يعود إليه بسلاسة.
لكن جاذبية أسلوب منصوري وحدها لا تفسّر سرّ ارتباط القرّاء به، سواء من النخبة أو من عامة الناس. فما الذي جعل ترجماته، التي تحمل روحًا قديمة، ومبالغات تشبه الأساطير، تفتن الإيرانيين إلى هذا الحد؟
قرأت ذات مرة مقالًا فارسيًّا مميزًا عن هذه الظاهرة، كتبه الأستاذ إمامي بعنوان "ظاهرة ذبيح الله منصوري"، وفيه حاول أن يكشف عن السر الكامن وراء هذا التأثير الغريب. قال إمامي إن منصوري، عبر التجربة والخطأ، تعلّم كيف يشدّ القارئ مثلما يشدّ النقّال جمهوره. و"النقال" هنا هو الحكّاء الشعبي الذي كان يحكي القصص في المقاهي والأسواق، بصوتٍ مؤثر ولغةٍ جذّابة، ويأسر مستمعيه لليالٍ طويلة. فقد كان منصوري، في كل فصل جديد، يُعيد تذكير القارئ بما سبق، ثم يقوده ببراعة إلى ما سيأتي، بأسلوب أقرب إلى من يروي حكاية مشوّقة في مقهى، منه إلى من يترجم كتابًا أكاديميًا.
وهنا كانت الكلمة المفتاحية، كما قال إمامي: "النقال".
والـ"نقّال"، في التراث الفارسي، هو راوٍ محترف ومؤدٍّ بارع، كان يروي قصص الشاهنامه، وهي ملحمة شعرية عظيمة ألّفها الشاعر الإيراني الفردوسي في القرن العاشر الميلادي، وتُعَد من أعظم ما كُتب في الأدب الفارسي. لم يكن النقّال يكتفي بسرد القصص، بل كان يُجسّدها أداءً وتمثيلًا، فيحوّلها إلى مشاهد درامية حية يقدّمها في المقاهي الشعبية، فينشدها أمام جمهور من العامة الذين يصغون إليه مأخوذين ومشدوهين.
ومنذ القرن السابع عشر، وتحديدًا في عهد الدولة الصفوية، أصبح هذا النوع من الحكايات الشفهية من أبرز وسائل الترفيه في إيران. ففي تلك الحقبة، ازدهرت المدن الكبرى مثل أصفهان وشيراز وتبريز، وامتلأت بالأحياء والأسواق، وصار المقهى، الذي كان يُقابل دور السينما أو شاشات التلفاز في زماننا، هو المكان الذي يجتمع فيه الناس مع غروب الشمس، لا ليستمعوا إلى الأخبار فحسب، بل ليُسحروا بالروايات.
وكان النقّال يدخل المقهى ليبدأ حكايته، فيشرب الحاضرون الشاي، ويدخّنون الشيشة، ويترقبون كل كلمة. فإذا روى لهم مشهدًا مأسويًا، أبكاهم، وإذا حكى موقفًا طريفًا، أضحكهم، وإذا تحدّث عن معركة أو بطل مغوار، حمّسهم وصفّقوا له، وربما دفعوا له المال كي يُبقي بطلهم المفضل على قيد الحياة، ولا يُعجّل بنهايته الحزينة.
ولم يكن النقّال مجرد ناقل لشعر الفردوسي كما يُتلى في بلاط الملوك أو بين طبقة المتعلمين. فهو لم يكن يخاطب النخبة، بل كان يُخاطب عامة الناس، ويبسط لهم اللغة والمعنى. وكانت الشاهنامه، كما هو معلوم، منظومة شعرية فخمة، مكتوبة بلغة فارسية قديمة، تتضمن كلمات نادرة، وصورًا دقيقة، ومعاني لا يفهمها إلا من أوتي نصيبًا من العلم. ولهذا، كان لزامًا على النقّال أن يُعيد صياغة هذه الأشعار إلى نثر مبسّط يُدركه الناس في الأسواق والمقاهي. وبهذا تحوّل الشعر القديم إلى فن شعبي جديد، فيه من روح الفردوسي، لكنه ممتزج بلمسة الحكاية العامية، التي تنبض بالحياة وتُعاش بالأذن والقلب.
وقد حرص عدد من هؤلاء النقّالين، على مدى الزمن، أن يُدوّنوا نسخهم المحوّرة في مخطوطات تُعرف بـ"الطومار"، أي الكتاب الملفوف أو السجل الطويل. وقد نُشرت بعض هذه الطومارات في النصف الثاني من القرن العشرين، وحين قارنها الباحثون بالنص الأصلي للشاهنامه، اكتشفوا كم التغيير الذي طرأ عليها: فالشعر تحوّل إلى نثر، واللغة البسيطة حلّت محل الفصحى القديمة، والحكايات توسّعت بإضافات مسرحية، ومشاهد درامية أُدخلت لتثير مشاعر المستمع، حتى بدا النص كأنه مسرح يُمثَّل، لا كتاب يُتلى.
وهذا الأسلوب، الذي انتهجه النقّالون في تطويع النصوص القديمة لذوق الجمهور، يُشبه ما فعله ذبيح الله منصوري في ترجماته. وهذا يُلاحظ بشكل خاص في ترجماته لروايات ألكسندر دوما، الروائي الفرنسي الشهير. فدوما، الذي كتب في القرن التاسع عشر، عُرف بقصصه المشوّقة وشخصياته البطولية التي تتسم بالمبالغة والمواقف العاطفية الحادّة، مما جعل نصوصه مناسبة تمامًا لما يريده منصوري.
فقد أخذ منصوري تلك الروايات الأصلية، وصاغها من جديد بلغة فارسية مبسطة، تُشبه لغة الناس في القرن العشرين. لم يكتف بالترجمة، بل زاد فيها من مشاهد المغامرة، وإذا شعر بأن وتيرة السرد تهدأ، أدخل مشهدًا من صنع خياله ليُثير اهتمام القارئ، ويُشعل فيه الترقّب لما سيأتي. وإن بدا له أن الحكاية تفتر، ضخ فيها مزيدًا من التشويق والانفعال، بحيث لا يسمح للقارئ أن يفقد الحماسة أو ينصرف عن النص.
وكان ذبيح الله منصوري، في مجمل أعماله، يضع نصب عينيه القارئ العادي، فيحرص على توضيح ما غمض من المعاني، وشرح ما استغلق من السياقات، ولو اضطره ذلك إلى الابتعاد عن النص الأصلي. لم يكن يرى حرجًا في أن يترك مجرى القصة ليسرد فضيحة من فضائح القصور الفرنسية، ما دام ذلك سيشدّ انتباه القارئ، ويملأ لديه فراغًا نفسيًّا كان يبحث عمن يملأه. وقد نجح في ذلك، إذ جذب إليه جمهورًا من القراء لم تكن لهم معرفة سابقة بالثقافة الفرنسية، ولا أدنى علاقة برواياتها، لكنه قدّمها لهم في صورة مألوفة، وبأسلوب سهل، ولغة قريبة من ألسنتهم.
ومن هنا، فإن منصوري لم يكن مترجمًا بالمعنى الحرفي المتعارف عليه، بقدر ما كان قريبًا من شخصية النقّال الحديث، أي ذاك الحكّاء الشعبي الذي يروي القصص بطريقته الخاصة، متحررًا من النص، ومقيدًا بذوق جمهوره وتوقعاته. وهذا هو السرّ في تأثيره الكبير في نفوس قرائه. لقد لمس جانبًا عميقًا في ذاكرتهم الثقافية، وربطهم، من حيث لا يشعرون، بتقليد قديم كان آيلًا إلى الانقراض. فقد ظهر في وقت كانت فيه أصوات النقّالين الشعبيين – الذين اعتاد الناس سماعهم في المقاهي – تخفت، والناس بدؤوا ينسون لذة الحكاية الشفهية. فجاء هو، وأحيا هذا الفنّ في صورة جديدة، لا تُلقى في المقاهي بل تُقرأ على الورق، ولكن أثرها كان شبيهًا بذلك الأثر القديم: فأنت حين تقرأ له، تشعر كأنك جالس أمام رجل حكيم يحكي لك قصة فارس مغوار، أو حبٍّ مأساوي، أو مؤامرة خطيرة، حتى يغيب عنك إدراك الزمان والمكان.
غير أن اسم منصوري، حين يُذكر اليوم في الأوساط الأدبية، لا يُذكر إلا وترافقه ابتسامة ساخرة. فالزمن قد تبدّل، وذائقة الناس تغيّرت، ولم تعد كتبه تباع كما في السابق، ولا تُقرأ كما كانت تُقرأ. وكثير من الكُتّاب والنقاد يرونه اليوم رجلاً بالغ في التزييف، لم يُكشف أمره إلا متأخرًا. ويعجب بعضهم، بل ويسخر، من قدرته العجيبة على تمرير هذا الأسلوب المتحرر لسنوات طويلة، دون أن يتنبه إليه كثير من الناس، وهو يغمرهم بأسلوب لم يكن كلّه أمينًا ولا صادقًا.
لكن، ما يُنسى كثيرًا – وربما يُتَناسَى – أن ما فعله منصوري لم يكن خروجًا غريبًا على تراث الترجمة. فقد كان نهجه في الواقع قريبًا مما فعله المترجمون في عصور سابقة. فمنذ قرون طويلة، قبل أن يظهر مفهوم "الأمانة الحرفية" في الترجمة، لم تكن دقّة النقل فضيلة أساسية عند المترجمين، ولم يكن التصرّف في النص يُعدّ عيبًا. بل كان المترجم آنذاك يُنظر إليه باعتباره وسيطًا ثقافيًا يهدف إلى توصيل المعنى، أو خدمة هدف معرفي، أو دعم نهضة أدبية.
ويكفي أن نذكر الرومان القدماء، الذين كانوا أصحاب حضارة كبرى، لم يلتزموا بالدقة في نقلهم عن الأدب اليوناني. لم يكن همّهم أن يُحافظوا على كل لفظ يوناني، بل كانوا يريدون أن يعزّزوا لغتهم اللاتينية، ويرفعوا من شأن أدبهم المحلي، ويُبنوا لأنفسهم مجدًا ثقافيًا. ولهذا لم يترددوا في أن يحذفوا، أو يُضيفوا، أو يُحرّفوا، طالما أن النتيجة تخدم غايتهم.
وقد قال شيشرون، وهو من أبرز الكُتّاب والخطباء الرومان، إنه لا يُقدّم ترجماته كما تُقدَّم الدراهم في الميزان، أي بحسب العدد والحرف، بل بحسب القيمة والمعنى. ولو أن منصوري سمعه، لربما ابتسم وقال: هذا ما أفعله أنا تمامًا.
ولم يكن شيشرون استثناء. فحين نقرأ ما فعله ماليرب، الكاتب الفرنسي في القرن السابع عشر، نرى أنه حين ترجم رسائل الفيلسوف الروماني سينيكا، لم يحافظ على أسلوبه، بل خلق نثرًا فرنسيًّا جديدًا، لا يكاد يُشبه الأصل. لقد نقل النص من طابعه القديم المليء بالزينة البلاغية – وهو ما يُعرف بالأسلوب الباروكي – إلى أسلوب أكثر رصانة ودقّة، ممهّدًا بذلك الطريق لأسلوب أدباء عصر التنوير. وكأن ترجمته لم تكن نقلاً عن سينيكا، بل كانت ولادة لنمط جديد من الكتابة في الأدب الفرنسي.
غير أن الأمور تغيّرت مع مطلع القرن التاسع عشر، حين ظهرت في ألمانيا نظرية جديدة في الترجمة غيّرت المفاهيم السائدة. فقد بدأت الأصوات تتعالى بضرورة الدقّة والالتزام الشديد بالنص الأصلي، واعتُبرت هذه الصفات – أي الأمانة للنص، واحترام نية الكاتب، وعدم التصرّف في معانيه – فضائل عُليا ينبغي أن يتحلّى بها كل مترجم. وبرز من بين أصحاب هذا التوجّه المفكر الألماني شلايرماخر، الذي ظلّ قوله يتردد حتى يومنا هذا: "على المترجم أن يُقرّب القارئ من المؤلف، لا أن يُقرّب المؤلف من القارئ." أي أن عليه أن يُبقي النص كما هو قدر استطاعته، ويطلب من القارئ أن يبذل جهدًا ليفهمه، لا أن يُبسّطه له أو يُعيد كتابته بلغة مألوفة.
ومنذ ذلك الحين، ترسّخ في وعينا أن الترجمة الجيدة هي التي تنقل صوت الكاتب كما هو، وتحفظ أسلوبه، وتُراعي دقّة المعنى وروح النص، لا أن تُقحم فيه ما ليس منه.
وإن كنا لا ننكر أن كل مترجم، مهما حرص، يترك في ترجمته أثرًا من نفسه، ولو في اختياراته للكلمات أو ترتيب الجمل – فهذا أمر لا سبيل إلى دفعه – إلا أن الأمانة تبقى المعيار الأهم. وقد عبّر عن هذا المفهوم بوضوح الناقد لورانس فينوتي، حين قال إن الترجمة الجيدة هي التي لا يشعر القارئ أنها ترجمة أصلًا، بل يتخيّل أنه يقرأ النص بلغته الأصلية، دون أن يشعر بانقطاع أو غرابة.
وفي عصرنا الحاضر، ومع هيمنة الترجمة الآلية – التي أصبحت اليوم قادرة على ترجمة الجمل بسرعة ودقّة مذهلة – بات هذا المعيار أكثر حضورًا. فالأجهزة والبرامج الرقمية أصبحت، أو ستصبح قريبًا، أقدر من الإنسان على مطابقة الكلمات بنظيراتها، وتركيب الجمل وفق قواعد دقيقة. ومن هذه الزاوية، يبدو أن معركة الدقة قد حُسمت لصالح التقنية. ولكننا نُسائل أنفسنا: ما الثمن الذي دفعناه؟ ماذا خسرنا حين أصبحت الترجمات تُشبه القوالب الجاهزة، متقشفة، جافة، دقيقة إلى حدّ البرودة؟ أين ذهبت تلك الحرية القديمة التي سمحت لشيشرون أن يترجم فكرةً بفكرة، أو لمنصوري أن يروي قصةً على هواه؟
أجل، حين نُعيد النظر في سيرة منصوري من هذا المنظور، لا تبدو مجرد حكاية طريفة عن رجل أجاد التحايل على قرّائه لعقود طويلة، بل تبدو تجربة ماثلة لحالةٍ خاصة تتحول فيها الترجمة إلى ضرب من التأليف. وإذا كان هذا الخلط قد جاء مدفوعًا بحسّ فني صادق، ونيّة في تقريب الأدب من النفوس لا تنفيرها منه، فإن أثره قد يكون نافعًا لا ضارًا.
فمهما قيل عن منصوري، فإن ما لا يختلف عليه اثنان هو أنه أدى دورًا كبيرًا في ربط ملايين الناس بعالم الكتب. لقد قدّم لهم أبوابًا سهلة الدخول، وجعلهم يكتشفون متعة القراءة عبر نصوص بسيطة ومشوّقة، حتى إذا أحبّوا القراءة، طمحوا إلى ما هو أعمق وأغنى. وهذه الخدمة التي قد يتجاهلها بعض المثقفين، لم يكن بوسع آلة ترجمة أن تؤديها، ولا مترجم دقيق أن يحققها. كانت تحتاج إلى شيء من الحكاية، من الفن، من القلب.
وإذا كان منصوري قد ابتعد عن النصوص في بعض المواضع، فإنه في المقابل كان مخلصًا للقارئ، حريصًا على ذائقته، وعلى أن يجد في القراءة لذّة، لا عبئًا. لم يكن يخاطب النخبة الثقافية المتعالية، بل كان يخاطب جمهورًا عريضًا من الناس الذين لم يتعوّدوا على الكتب، فاستقبلهم ببساطة ودفء، وسرد لهم الحكايات كما اعتاد الناس قديمًا: لا ليُدرسوها، بل ليُحبّوها.
نُقل بتصرف من yalereview بقلم أمير أحمدي أريان يعلم الكتابة الإبداعية في جامعة بينغهامتون
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
مقالة أنيقة جدا و شخصية فريدة تعكس اهمية الترجمة، شكرا جزيلا لك