لماذا ينبغي أن نقرأ "عزاء الفلسفة" لبوثيوس ؟
كُتب و مؤلفه ينتظر حكم الإعدام، ويثير أسئلة فى العقل البشري لا تزال ملحة إلى اليوم
لما يقرب من ألف عام، ظل كتاب "عزاء الفلسفة" لبوثيوس في طليعة النصوص الفلسفية الأكثر قراءة في أوروبا. لم يكن حكرًا على العلماء والمتخصصين، بل امتدت قراءته إلى جمهور واسع، ممن اطلعوا عليه بلغاته المتعددة، سواء في اللاتينية الأصلية أو في ترجماته. وقد يبدو غريبًا أن هذا الكتاب، الذي نافس يومًا ما نصوص أرسطو وأوغسطين في تأثيره، قد أصبح اليوم نصًا منسيًا، لا يقرأه إلا الباحثون المتخصصون في دراسات العصور الوسطى. ولكن هل فقد الكتاب بريقه فعلًا، أم أن جاذبيته تكمن في أعماقه، بانتظار من يعيد اكتشافها؟
إن من يقرأ "عزاء الفلسفة" قراءة متأنية، واضعًا إياه في سياقه التاريخي والفكري، لا بد أن يدرك أن هذا العمل أكثر تعقيدًا وثراءً مما قد يبدو للوهلة الأولى. صحيح أن القراء في العصور الوسطى انجذبوا إلى ما فيه من تأملات واضحة حول القدر والسعادة والمعاناة، إلا أن لآلئه الحقيقية تكمن في تلك الأفكار العميقة، التي لا تزال قادرة على مخاطبة القارئ المعاصر، إن هو أحسن الإنصات.
ليس من المستغرب أن يأتي هذا الكتاب وليد المحن والشدائد. فقد وُلد بوثيوس في عام 476 ميلادي، في أسرة رومانية نبيلة، وتمتع بحياة مترفة، شغل فيها مناصب عليا، وكرّس وقته للبحث في الفلسفة والمنطق والموسيقى، متأثرًا بالثقافة اليونانية. لكنه عاش أيضًا في زمن مضطرب، حيث كانت إيطاليا تحت حكم القوط الشرقيين، الذين أراد ملكهم، ثيودوريك، أن يكسب ولاء النبلاء الرومان، لكنه لم يكن قادرًا على الوثوق بهم تمامًا.
وفي مطلع القرن السادس عام 520 ميلادياً، استدعاه الملك ليشغل منصب "سيد المكاتب"، وهو أعلى منصب إداري في المملكة. قبل بوثيوس المنصب، لكنه لم يكن من أولئك الذين يسيرون مع التيار، فتصدى للفساد دون تردد. وسرعان ما وجد نفسه محاطًا بالأعداء، ولم يكن الملك بحاجة إلى كثير من الإقناع ليصدق أن مستشاره اللامع قد تحول إلى متآمر يسعى للإطاحة به. وهكذا، أُلقي القبض عليه، وأدين بالخيانة، وزُج به في السجن بانتظار الإعدام. وبين جدران زنزانته، وفي مواجهة المصير المحتوم، كتب بوثيوس "عزاء الفلسفة".
الكتاب يأخذ شكل حوار بين بوثيوس السجين وتجسيد للفلسفة، التي تظهر له في هيئة امرأة ذات وقار وجمال. وهو مكتوب بأسلوب يجمع بين النثر والشعر، حيث تتخلل الحوارات قصائد تعكس تأملات فلسفية، أو تلقي بظلال جديدة على النقاش.
في البداية، يغلب اليأس على بوثيوس، فيندب حظه العاثر، ويشكو للمرأة الحكيمة الظلم الذي تعرض له فى التهم الموجهة إليه. لكنه يفاجأ بأن الفلسفة لا تبدي أي تعاطف. تخبره أنه إذا كان يتذكر تعاليمها، لما كان يشكو، كما يفعل، من أن الله لا يهتم بالبشر، وأن الأخيار يعانون بينما الأشرار يزدهرون. ثم تشرع في الرد على هاتين التهمتين.
تأخذ حجج الفلسفة منحى تدريجيًا: في البداية، تعطيه دروسًا لطيفة، لكنها سرعان ما تنتقل إلى علاجات أكثر عمقًا. تخبره أن الحظ، الذي وهبه كل ما يملك، ليس له وفاء، ومن السذاجة أن يشكو الإنسان حين تستدير عجلة الزمن ضده. فكما أن للحياة وجهًا مشرقًا، فلها وجه آخر، ولا أحد يملك أن يظل دائمًا على القمة.
لكن الدرس الأكبر الذي تقدمه له هو أن السعادة الحقيقية لا تكمن في الجاه أو المال أو السلطان، بل في الخير المطلق، الذي لا يتغير ولا يزول، والذي يتمثل في الله ذاته. ومن خلال التمسك بهذا الخير الأسمى، يستطيع الإنسان أن يجد الطمأنينة، مهما ضاقت به الدنيا.
ومثلما فعل أفلاطون في حواره "جورجياس", تسوق الفلسفة حجتها الأخيرة: ليس صحيحًا أن الأشرار يزدهرون، أو أن الأخيار مضطهدون. فالرذيلة لا تجلب السعادة، حتى لو بدت لصاحبها نجاحًا، والفضيلة لا تكون هباءً، حتى لو عانى صاحبها. بل إن الله، الذي صنع الإنسان، جعله في سعي دائم نحوه، ومن خلال هذا السعي وحده تتحقق السعادة الحقيقية. ولكن، إن كان الله يرعى البشر، فلماذا يسمح بالمعاناة؟ تجيب الفلسفة بأن حكمته تتجاوز إدراك البشر، وأنه، وإن كانت طرقه خفية، فإنه لا يترك خلقه بلا عناية.
يثير "بوثيوس السجين" معضلة منطقية شائكة: إذا كان الله يعلم مسبقًا بكل ما سيحدث، فكيف يمكن أن تكون أفعال البشر حرة؟ وإذا لم تكن كذلك، وكان كل شيء مكتوبًا بقدر محتوم، فأين المسؤولية الأخلاقية؟ وما جدوى الحديث عن الفضيلة والرذيلة، إذا كان الإنسان لا يملك من أمره شيئًا؟
تتصدى الفلسفة لهذه الإشكالية بردّ معقد، فهي تقرّ بأن الله يعلم بكل شيء، لكنه لا يعلم الأحداث كما يعلمها البشر، بل يراها جميعًا في آنٍ واحد، إذ إنه قائم في "أبدية" لا تقاس بالزمن. وهكذا، فإن الأحداث المستقبلية تبدو لنا عرضية، لكنها من منظور الله ضرورية، دون أن يتعارض ذلك مع حرية الإرادة.
لكن المدهش في هذا الجدل، ليس ما قيل فيه، بل ما غاب عنه. فبوثيوس، وهو مسيحي يواجه الموت، لم يأتِ في "عزاء الفلسفة" بأي إشارة مباشرة إلى المسيحية، بل استند كليًا إلى الفلسفة الوثنية، تلك التي أسسها أفلاطون وأرسطو واستمرت في مدارس أثينا والإسكندرية. ولم يعترض بوثيوس السجين على ذلك، بل انساق في هذا الحوار كأنه تلميذ مطيع، يتلقى عن معلمته الفلسفة ما تجود به من دروس الحكمة.
ورغم أن هذه المسألة لم تغب عن أذهان قراء العصور الوسطى، فإنها لم تزعجهم كثيرًا، فقد كانوا ميالين إلى الجمع بين الفلسفة القديمة والإيمان المسيحي، دون أن يجدوا في ذلك تناقضًا. بعضهم، مثل ألكوين في القرن التاسع، سعى إلى منح الكتاب طابعًا كتابيًا، فشبه الفلسفة بـ"الحكمة السليمانية"، فيما اكتفى معظمهم بالنظر إلى أفكاره بوصفها منسجمة مع المسيحية، حتى وإن لم يصرّح بذلك. ولعل السبب في ذلك أنهم كانوا ينتمون إلى زمن باتت فيه الفلسفة الوثنية جزءًا من التراث، ولم تعد تشكل تهديدًا للإيمان، بخلاف زمن بوثيوس، الذي كان أشد اضطرابًا.
لكن لم يكن الجميع راضيًا عن هذا التمازج السهل. ففي القرن العاشر، وجه رئيس دير كورفاي، بوفو، نقدًا صريحًا إلى الطابع الوثني للكتاب. وبعد ذلك بعدة قرون، جاء الشاعر الإنجليزي جيفري تشوسر، الذي كان مفتونًا ببوثيوس، فترجم "عزاء الفلسفة" إلى الإنجليزية، لكنه أدرك ما غفل عنه غيره: بوثيوس لم يكن يورد الفلسفة الوثنية عرضًا، بل كان يبعث برسالة من خلال اختياره لها كسلطة عليا. ولهذا، استخدم تشوسر الكتاب ليظهر كيف أن الشخصيات الوثنية في أعماله، مثل ثيسيوس في "حكاية الفارس" وترويلوس في "ترويلوس وكريسيدا", تلجأ إلى الفلسفة، وأحيانًا تسيء استخدامها، في محاولتها لفهم الحياة والمصير.
واليوم، وقد أصبحنا أكثر وعيًا بالفروق التاريخية، باتت أهمية هذا الاختيار أوضح مما كانت عليه في عصور سابقة.
في زمن بوثيوس، لم يكن الفلاسفة المسيحيون قد فصلوا بعد بين تراث الفلسفة القديمة وتعاليم الإيمان. بل كانوا يرون أنفسهم أوصياء على ذلك الإرث الفكري الذي سبق المسيحية، ويبحثون في كيفية التوفيق بينه وبين عقيدتهم. ولهذا، فإن اختيار الفلسفة الوثنية لتكون الصوت الموجه في "عزاء الفلسفة" لم يكن مجرد خيار أدبي، بل كان إشارة إلى معضلة أعمق، تشبه تلك التي طرحها أفلاطون عندما تناول محاكمة سقراط وإعدامه: كيف يواجه الإنسان مصيره المحتوم؟ وكيف يعطي لحياته معنى في ظل اقتراب الموت، اعتمادًا على العقل والتأمل الفلسفي، دون أن يستند إلى العزاء الديني الصريح؟
هذا السؤال، وإن بدا قديمًا، لا يزال حيًا بيننا. فالناس، مؤمنين وغير مؤمنين، ما زالوا يبحثون عن إجابات، ويسألون أنفسهم كيف ينبغي أن نحيا، ونحن نعلم أن النهاية حتمية. وربما لهذا، فإن "عزاء الفلسفة"، رغم أنه كُتب منذ قرون، يبدو أقرب إلينا اليوم مما كان إلى معاصري بوثيوس.
إذا قرأنا "عزاء الفلسفة" قراءة مباشرة، وجدنا أن حجج الفلسفة تُطرح كحقيقة مطلقة، يقبلها كل من "بوثيوس السجين" والمؤلف نفسه. وبذلك، يبدو العمل وكأنه تأكيد على قدرة العقل البشري وحده، غير المدعوم بأي إيمان، على الصمود حتى في مواجهة الموت، شأنه في ذلك شأن حوارات أفلاطون حول محاكمة سقراط. ولكن، وكما هو الحال مع حوار "فيدون"، لا تبدو هذه الحجج الفلسفية قوية بما يكفي لإقناع القارئ المعاصر بأنها قادرة على منح العزاء حقًا. ولعل في هذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل يمكن الاكتفاء بهذه القراءة المباشرة، أم أن في العمل دلالات أعمق؟
كان القراء القدامى على وعي تام بطبيعة هذا النوع من الكتابة. فبوثيوس، إذ يزاوج بين النثر والشعر في كتابه، يشير إلى أنه يستخدم أسلوب "السخرية المينيبية"، وهو نوع أدبي يتسم بالسخرية من شخصيات السلطة، كما أوضح جويل ريليهان في دراسته "السخرية المينيبية القديمة". بناءً على ذلك، قد يكون القارئ القديم قد توقع أن "عزاء الفلسفة" لا يقدم الفلسفة بوصفها الحقيقة المطلقة، بل يسخر منها على نحو ما. وقد دفع هذا التصور ريليهان في كتابه "فلسفة السجين" إلى تقديم قراءة مناقضة تمامًا للقراءة المباشرة. فهو يرى أن الفلسفة في هذا العمل تفشل في تقديم العزاء، وأن بوثيوس، من خلال هذا الفشل، يكشف عن قصور التفكير الفلسفي، مشيرًا ضمنيًا إلى أن العزاء الحقيقي لا يأتي إلا من الإيمان المسيحي، الذي بحث عنه "بوثيوس السجين" في غير موضعه.
ولكن، هل كان بوثيوس، الذي كرّس حياته للفلسفة، يعمد إلى تقويضها بهذه الطريقة؟ إذا كان غرضه فقط هو إظهار عدم كفايتها، فلماذا ينهي كتابه بحجة فلسفية معقدة حول العلم الإلهي والعرضية، وهي واحدة من أكثر أفكاره الفلسفية أصالة؟ إن نظرية ريليهان، رغم ما تثيره من أسئلة مهمة، تظل غير مقنعة في نهاية الأمر.
الرأي الأقرب إلى المنطق هو أن بوثيوس لم يكن يسعى إلى تقويض الفلسفة، بل أراد أن تُؤخذ حججها على محمل الجد، حتى وهو يدرك أنها لا تكشف عن الحقيقة كاملة. ولهذا، لم يضع ردودًا قاطعة، بل ترك داخل نصه توترات فكرية تدفع القارئ إلى التفكير والتساؤل. ويمكن رصد هذه التوترات في ثلاثة محاور رئيسية: مفهوم السعادة، و دور العناية الإلهية في معاناة الأخيار، وحدود الحرية البشرية.
في القسم الأول من الكتاب، تقدم الفلسفة تصورًا دقيقًا للسعادة، فتقرر أن معظم ما يطمح إليه الناس—الثروة، و المناصب، و الشهرة، و الملذات—ليس سوى سراب خادع، لأن السعادة الحقيقية لا تقوم على هذه الأمور الزائلة، بل على قيم أعمق مثل الاكتفاء، والاحترام، والقوة الحقيقية، والفرح الدائم. حتى في السجن، يمكن للإنسان أن يمتلك هذه القيم، ما دامت روحه مستقلة عن تقلبات الحظ. لكن مع تقدم الكتاب، يتغير هذا الطرح، إذ تدعو الفلسفة إلى تجاوز فكرة تعدد مصادر السعادة، وتقرر أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال الخير الأسمى، الذي لا يتجسد في أي قيمة دنيوية، بل يتمثل في الله ذاته. وهكذا، تصبح كل الأشياء التي يلهث البشر وراءها بلا قيمة في ذاتها، بل هي مجرد ظلال تصرفهم عن إدراك الخير الحقيقي.
هنا يتداخل مفهوم العناية الإلهية مع مفهوم السعادة، فتستعير الفلسفة حجة من أفكار جورجياس، لتؤكد أن الله لا يتدخل في مجرى الأحداث بطريقة مباشرة، لكنه في الوقت نفسه يضبط النظام الأخلاقي للكون. فالأشرار، وإن بدا أنهم يزدهرون، لا ينعمون بسعادة حقيقية، لأنهم بابتعادهم عن الخير الأسمى، يعاقبون أنفسهم بأنفسهم، بل ربما—كما تزعم الفلسفة—يواجهون خطر التلاشي الوجودي ذاته. ولكن عند هذه النقطة، يتدخل "بوثيوس السجين"، الذي كان حتى الآن منصتًا باهتمام، فيعترض ويسأل مستنكرًا: أي إنسان حكيم يفضل أن يكون منفيًا فقيرًا محتقرًا، على أن يعيش في مدينته، قويًا بثرائه، مهابًا بشرفه، ممسكًا بزمام السلطة؟
يمكن للفلسفة، نظريًا، أن ترد على اعتراض السجين بتأكيد موقفها السابق، ولكنها بدلًا من ذلك تختار أن تتراجع، وتطرح تفسيرًا جديدًا للعناية الإلهية. فوفقًا لهذا التفسير، فإن الله يرتب مجرى التاريخ بحكمة عليا، بحيث يخدم كل شيء في النهاية غايته الأخلاقية. فإذا رأينا الأشرار يزدهرون، فقد يكون ذلك اختبارًا لهم، أو فرصة لهم للتوبة، أو وسيلة لمعاقبة آخرين من خلالهم. أما معاناة الأخيار، فقد تكون امتحانًا لصبرهم، أو وسيلة لصقل فضائلهم، أو حتى تمهيدًا لخير أعظم لا ندركه في اللحظة الراهنة.
إن الإرادة الحرة للإنسان، كما تقدمها الفلسفة في هذا السياق، تبقى خارج نطاق العناية الإلهية. وهذا ما يجعل الاعتراض الذي يثيره "بوثيوس السجين" حول تعارض العلم الإلهي المسبق مع العرضية المستقبلية ذا أهمية قصوى. فكمال الله يقتضي أن يكون عالمًا بكل شيء، ليس فقط بما وقع ويقع، بل بما سيقع أيضًا، بما في ذلك رغبات الإنسان في المستقبل. فإذا كان الله يعلم، منذ الأزل، أنني سأرغب غدًا في شرب فنجان قهوة عند استيقاظي، أفلا يعني ذلك أنني لست حرًا في اختيار عكس ذلك؟
هنا يكمن جوهر الإشكال: إذا كان العلم الإلهي المسبق حقيقة ثابتة، فكيف للإنسان أن يكون مسؤولًا عن أفعاله؟ فحرية الإرادة، كما يراها "بوثيوس" وكما يراها كثير من الفلاسفة، هي الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، ومن دونها، ينهار مفهوم المسؤولية. ولهذا، تسعى الفلسفة إلى تقديم إجابة شاملة، تُفنّد فيها الاعتراضات المختلفة التي يطرحها "بوثيوس السجين". غير أن هذه الإجابة، وإن بدت متماسكة، تواجه تحديًا أعمق.
إذ يشير "بوثيوس السجين"، وتوافقه الفلسفة على ذلك، إلى أن معرفة الله تختلف عن معرفة البشر اختلافًا جوهريًا. فنحن عندما نعرف أمرًا، فإن معرفتنا تكون انعكاسًا لما هو موجود بالفعل. أما الله، فمعرفته ليست مجرد انعكاس، بل هي التي تجعل الأشياء كما هي. وهذا ما يطرح إشكالًا آخر: فإذا كانت معرفة الله تسبق الأشياء وتحددها، أفلا يكون هو الفاعل الحقيقي لكل ما يحدث؟ في موضع متأخر من "عزاء الفلسفة"، تزعم الفلسفة أن حلّها لإشكال العلم الإلهي المسبق يحلّ أيضًا هذه المعضلة، لكنها لا تقدم برهانًا واضحًا، بل تكتفي بتقرير الأمر: "إن هذه القوة المعرفية، التي تجمع كل الأشياء في لحظة واحدة، هي التي تحدد مقاييس الوجود، دون أن تكون مدينة في ذلك لأي شيء أدنى منها".
قد يُقال إن بوثيوس، تحت وطأة محنته القاسية واقترابه من الموت، لم يكن واعيًا بهذه التوترات التي تعتري بنية عمله، أو لعله لم يجد الوقت الكافي لمراجعة حججه وتدقيقها. غير أن اختيار بوثيوس لنمط أدبي يسمح بالتساؤل والشك في السلطة الفكرية يجعل من الأرجح أن هذه التوترات مقصودة. فكأنما أراد أن يقول إن الفلسفة تستطيع أن تمنح عزاءً، لكنها لا تقدم عزاءً كاملًا، وأن العقل البشري، مهما بلغ من قدرة، يبقى عاجزًا عن الإحاطة بكل أبعاد الحقيقة الإلهية. وهكذا، يبدو أن "بوثيوس المؤلف" قد صاغ كتابه ليقود "بوثيوس السجين" إلى تجاوز العزاء الفلسفي نحو يقين أعمق، لا يُطرح كرفض للفلسفة، بل كإتمام لها، وكأن الفلسفة نفسها، وهي في ذروة قوتها، تشير إلى حدودها وتلمّح إلى ما هو أبعد منها.
وهناك ملمح آخر غالبًا ما يتم تجاهله في النقاش حول العلم الإلهي المسبق، وهو أن المشكلة في جوهرها تدور حول طبيعة المعرفة نفسها. فالأحداث المستقبلية، من حيث هي مستقبلية، غير يقينية، بينما المعرفة تقتضي اليقين. فكيف إذًا يمكن لله أن يعلم المجهول قبل أن يتحقق؟ تردّ الفلسفة على هذا التساؤل بمبدأ مفاجئ: "كل ما يُعرف، إنما يُعرف وفقًا لطبيعة العارف، وليس وفقًا لطبيعة المعلوم". وهذا يعني أن المعرفة ليست أمرًا ثابتًا، بل تتغير تبعًا لوعي الكائن الذي يدركها. فالحواس البشرية تدرك الواقع بطريقة، والعقل يدركه بطريقة أعمق، أما العقل الإلهي، فيدركه على نحو أكمل. الإنسان، من وجهة نظر الحواس، هو فرد، لكن من وجهة نظر العقل، هو جزء من نظام أوسع، ومن وجهة نظر الله، هو كيان متكامل لا يتجزأ. وما نراه نحن اختيارًا حرًا، يراه الله أمرًا ضروريًا من منظوره الأزلي.
هذه النسبية، على خلاف التصورات النسبية الحديثة، ليست فوضوية، بل هرمية: فالإدراك الحسي هو أدنى مستويات المعرفة، يليه العقل، ثم يعلوه العقل الإلهي الذي يرى الأشياء كما هي في جوهرها. وهذا يفرض على الإنسان نوعًا من التواضع المعرفي، إذ عليه أن يدرك أن عقله، مهما بلغ من قوة، محدود، وأن الحقيقة الكاملة لا تتجلى إلا لمن يملك قدرة معرفية تفوق البشر.
لقد سعى بعض قراء العصور الوسطى إلى تطويع "عزاء الفلسفة" بحيث ينسجم مع العقيدة المسيحية السائدة في عصرهم، مما جعل رسالته تبدو أكثر وضوحًا وأقل إشكالًا. أما القارئ الحديث، الذي ينظر إلى العمل من مسافة زمنية كافية، فإنه يستطيع أن يقرأه في سياق زمن بوثيوس نفسه، ويرى فيه ليس فقط دفاعًا شجاعًا عن العقل البشري في وجه الظلم والموت، بل أيضًا كشفًا عن حدود هذا العقل. فالفلسفة تمنح "بوثيوس السجين" بعض العزاء، لكنها تمنحه أيضًا درسًا أشد عمقًا: أن المعرفة الإنسانية، مهما بلغت من دقة، يجب أن تقترن بالتواضع أمام ما لا تستطيع إدراكه.
مترجم من Aeon بقلم جون مارينبونس زميل في الأكاديمية البريطانية ، باحث في كلية ترينيتي ، كامبريدج.
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي