في يومٍ من الأيام، وبينما كنت أقود سيارتي على أحد طرق نيويورك المكتظة والمتدهورة، وجدتني أمام موقف مألوف لمن يشاهدون مقاطع الفيديو المنتشرة على يوتيوب لسائقي السيارات المتهورين: سائقٌ لا يعير وجود السيارات الأخرى أي اهتمام، بل اقتحم بثقة المسار الذي كنت أسير فيه. وبعد مناورة سريعة أنقذتني من احتمالية أن أصبح أحد أبطال تلك المقاطع، قلت بصوتٍ ربما كان أعلى مما ينبغي، دون أن أوجه كلامي لأحد بعينه: "هل هذا [كلمة بذيئة] يدرك وجود أي شيء حوله غير شخصه [كلمة بذيئة]؟"
وبما أنني فيلسوف، ولدي نزعة للتشبث بالأفكار، خاصةً تلك التي لا تجد لها إجابات واضحة، دفعتني تلك اللحظة من تأمل شهرة يوتيوب إلى التأمل في مظاهر أخرى لما أُطلق عليه متلازمة "الشخصية الرئيسية" (MCS) أو، بتعبير أكثر إثارة للضيق، "طاقة الشخصية الرئيسية". هذه المتلازمة ليست تشخيصًا سريريًا، وإنما هي وسيلة لتحديد موقع المرء بالنسبة للآخرين، وقد انتشرت بفضل العديد من منصات التواصل الاجتماعي. تتجسد هذه المتلازمة في ميل الفرد إلى اعتبار حياته رواية يكون هو بطلها الرئيسي، فيما يصبح الآخرون مجرد شخصيات هامشية بالكاد يلحظها. في هذا السياق، لا تهم سوى رؤى البطل ومشاعره وآرائه، فيما تُلقى بقية الشخصيات في هامش الإدراك. البطل يُحدث الفعل، والجميع يقتصر دورهم على رد الفعل. البطل يطالب بالاهتمام، والبقية عليهم الطاعة.
لعلك قد سمعت عن سلوك الشخصية الرئيسية، أو ربما شاهدته في الواقع أو عبر الإنترنت. فهناك من يؤثرون التقاط صور سيلفي بأنفسهم ويزيحون الآخرين جانبًا بزعم أنهم "يُفسدون" اللحظة، ومن ثم يطلبون إزاحة الآخرين من الصور في منصات التواصل. وهناك من يشاهدون برامج رياضية بصوتٍ عالٍ في مترو مكتظ، متجاهلين طلبات الركاب الآخرين بتخفيض الصوت. هذا السلوك ليس مجرد وقاحة؛ إنه جزء من عالم الشخصية الرئيسية المحدود، حيث لا يرى هؤلاء الآخرون إلا كأشباح ثانوية تتطفل على مساحاتهم. نحن بمثابة قطع شطرنج أو تماثيل ميكانيكية تُستخدم فقط في تطور قصة الشخصية الرئيسية. في المصطلحات الحديثة، نحن شخصيات غير لاعبة (NPCs)، وهو مصطلح نشأ من الشخصيات التي تظهر في ألعاب الفيديو ولكنها ليست تحت سيطرة اللاعب. بدلاً من ذلك، تكون مبرمجة مسبقًا من قِبل مطوري اللعبة لتقديم مهام، و حوارات، أو أدوار مساندة ضمن القصة أو العالم الافتراضي. وهي ليست كائنات ذات إرادة أو نية، بل هي موجودة لخدمة الشخصية الرئيسية أو للتفاعل معها بطرق معينة أو للبقاء صامتة، أشبه بأثاث أو جزء من الديكور.
هناك طريقة أخرى لفهم الشخصيات غير اللاعبة، وهي ما أطلق عليه الفيلسوف ديفيد تشالمرز "الزومبي الفلسفي" – كائن يشبه الإنسان من الناحية الفيزيائية لكنه يفتقر للوعي. فإذا ضحك هذا الكائن، فهو لا يفعل ذلك لأنه يجد شيئًا مضحكًا؛ بل يكون سلوكه مجرد تقليد للإنسان الواعي، أي الشخصية الرئيسية. ولمن يؤمن بأنه الشخصية الرئيسية، قد يكون الآخرون بالنسبة له مجرد زومبي.
ورغم أن فكرة الزومبي الفلسفي في طرح تشالمرز هي فرضية تتعلق بطبيعة العقل والوعي، إلا أن النظرة غير الفلسفية للناس كالشخصيات غير اللاعبة تثير قلقًا أخلاقيًا بالغًا. فبعد سنوات من التعليم والكتابة في مجالات الأخلاق وعلم النفس الأخلاقي، كانت إحدى الأفكار الأساسية التي سعيت إلى توضيحها هي أن الأخلاق ممارسة نقوم بها سويًا، وأن فهمنا لذواتنا يحتاج إلى مشاركة الآخرين، وأن الانفتاح العاطفي على تجاربنا الأخلاقية هو جزء أساسي من حياتنا المشتركة. علينا أن نرى الآخرين ككائنات إنسانية كاملة، وأن نتعامل معهم بوصفهم كائنات أخلاقية لنعرف من نحن، وما نحن في علاقتنا بالآخرين وبالعالم.
ولكن رواية الشخصية الرئيسية تنفي كل هذه الإمكانيات، وتدمر فكرة الإنسان ككائن متصل ومتعاون بطبيعته، مما يهدد تجربتين إنسانيتين هامتين: التواصل مع الآخرين، والحب.
وللرد على الاعتراضات بأن مخاوفي ليست سوى انعكاس لفجوة جيلية، جيل قديم يسيء فهم جيل أصغر، أقول إن افتراضات الشخصية الرئيسية خطيرة لأنها ليست ظاهرة عابرة، ولا تخص منظورًا سياسيًا أو اجتماعيًا لجيل معين، بل تمتد تأثيراتها إلى ما هو أبعد من مؤثري تيك توك، لتصل إلى عالم الأعمال، والأوساط الأكاديمية، وحتى في مراكز اتخاذ القرار.
بوصفي فيلسوفًا وسرديًا، فأنا أدافع بحماس عن الرأي القائل بأن ذواتنا هي نتاج مشترك نصنعه عبر القصص التي نتبادلها. فما هي القصة؟ هي أي تعبير يمكن قراءته، أو التحدث عنه، أو سماعه، أو كتابته، أو مشاهدته، أو التعبير عنه بأي شكل كان – ويتضمن هذا بلا شك وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال سرد القصص، نصنع ونعبّر عن ذواتنا؛ ومن خلال الاستماع لقصص الآخرين، نساعد في تشكيلهم ودعمهم كأشخاص. القصص هي الأساس لفهمنا للعالم ومكاننا فيه، ومن خلالها يمكننا أن نجعل أنفسنا مفهومين أخلاقيًا للآخرين ولذواتنا.
ولكن هنا تكمن المشكلة. إذا تجاوزنا الانتقادات الفلسفية لوجهة النظر السردية للأخلاق باعتبارها غير موثوقة معرفيًا وتفتقر للأسس الصلبة، فإن هناك مخاوف تتصل مباشرة بموضوعنا الحالي: إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من السرد، فهل يمكن للسرديين، أمثالي، الدفاع عنها بنفس الطريقة التي ندافع بها عن طرق السرد الأخرى لفهم أنفسنا والعالم؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فلماذا إذن أشعر بالقلق حيال متلازمة الشخصية الرئيسية وقصصها الكثيرة؟
إن الإجابة على مسألة ارتباط متلازمة "الشخصية الرئيسية" بنوعية القصص التي تُسرد من خلالها، تضعنا أمام مفترق طرق بين نوعين من السرد، كل منهما يتسم بمقاربة أخلاقية خاصة به. فمن جهة، نجد أن هذه المقاربات السردية التي تركز على الأخلاق والهوية، تتطلب منا الاشتراك في حوار متكامل بين التحدث والاستماع. ذلك أن هذه الثنائية تكوّن لبّ المشاركة الإنسانية، حيث يتداخل الصوت مع الآخر، وينشأ من خلالهما خطاب مشترك يحمل الفهم المتبادل ويجسد التعددية الصوتية، تلك التي يُنظر إليها بوصفها قوام التعايش السليم بين الهويات المختلفة.
ومع هذا، فإن في ناحية أخرى قصصًا تُنسج في أذهان بعض الأفراد، الذين يتقمصون دور الشخصية الرئيسية في حياتهم، ولا ينظرون إلا إلى ذواتهم، ولا يرون في قصص الآخرين مادة تهمهم أو تستحق الصبر لسماعها. فهذه الشخصيات قد اعتزلت التفاعل المشترك، ورأت أن الأهمية لا يمكن أن تتعدى ذاتها، فليس هناك صوت جدير بالحديث، سوى صوتهم؛ وهم وحدهم الساردون لقصصهم، وينسجون خيوطها دون التفات لما حولهم. وربما نجد هنا إشارة إلى ما يطرحه السرديون من فكرة مؤداها أن ليست كل القصص صالحة أو جديرة بالتشجيع، بل ثمة سرديات قد تكون ضارة بالمرء وبالآخرين.
وتتبدى لنا هنا رؤية الفيلسوفة النسوية وأخلاقيات البيولوجيا، هيلدي ليندمان، التي ترى أن بعض القصص إنما تخلق مساحات من الضرر الأخلاقي، تؤثر على هوية المتحدث وتضع مستمعيه في مواضع خطرة؛ فهي تفتك بإمكانية قيام عالم أخلاقي مشترك، وتقطع أوصال الارتباط بين الإنسان ومحيطه. وأرى أن تلك القصص التي تسود في ظاهرة "الشخصية الرئيسية" تندرج ضمن هذا النوع الضار، لأنها تنطلق من منطلقات أنانية وعزلة، ولا تعترف بأي التزام أخلاقي تجاه الآخرين.
وتقدم لنا متلازمة "الشخصية الرئيسية" صورة من قصص تخطئ الإنسانية في جوهرها؛ قصصًا تنبع من نزعات ضارة، ومعزولة عن السياق الاجتماعي، أنانية، وغير أخلاقية في قاعدتها. وتلك القصص لا تنشأ من فراغ، بل تعتمد على تصور مغلوط للذات المتفوقة. وما أن تتوهم هذه الشخصية أنها بالغة الأهمية، حتى تتخذ هذه الأهمية مظاهر عدة، نرى أقدمها وأحدثها في عوالم الترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي. فملايين المشاهدات التي يتلقاها وسم "الشخصية الرئيسية" على منصات مثل تيك توك وإنستجرام، مصحوبة بقبول واستحسان عام، تعزز هذا المفهوم السائد، وتجعل من فكرة "أن تكون بطل حياتك" شعارًا متداولًا، يعتبره الناس أمرا جوهريًا لا غنى عنه.
لكن هل حقًا تقتصر ظاهرة "الشخصية الرئيسية" على وسائل التواصل الاجتماعي؟ إنني أرى أنها تتجاوزها لتصل إلى عالم الأفلام، تلك التي توجه للشباب خصوصًا، فتقص عليهم رحلات بطولية محورها ذات الفرد، ذلك البطل الذي لا بد أن يواجه تحدياته الخاصة، ويتفوق عليها، ليغدو منتصرًا يزهو بإنجازه في نهاية المطاف. هذا الأسلوب من السرد يظهر لنا بجلاء في أفلام حديثة كـ"The Hunger Games"، وسلسلة "Divergent"، وعالم "Spider-Man"، و"The Maze Runner"، حيث لا وجود لأبطال سوى بطل واحد، وكما يقول فيلم "هايلاندر": "لا يمكن أن يكون هناك سوى واحد".
ومن هنا، يعمد الناس إلى تقليد هذه الشخصيات، فنرى الكثيرين ينقلون حياتهم إلى شاشات الهواتف، يسردون مساراتهم اليومية وكأنها حبكات قصصية عظيمة، ويرجون من الآخرين الإنصات والاهتمام، وكأنما أصواتهم وحدها جديرة بالاستماع. وتحت هذا الإلحاح نجد نداءً خفيًا يقول: "توقفوا عن كل شيء، وشاهدوني – أنا البطل!"
وهنا، لا بد لنا من وقفة أمام هذا الهوس المتزايد بأهمية الذات؛ فهل تُلام وسائل الإعلام وحدها في هذه النزعة؟ أم أن في تاريخ البشرية جذورًا عميقة للنرجسية والسعي الفردي؟ إنني أرى أنه حتى قبل ظهور الإنترنت، كانت هناك دائمًا ميول فردية متأصلة في النفس الإنسانية، تتجلى في مذكرات الأفراد وسيرهم الذاتية وقصائدهم، حيث يسعى المرء لوضع حياته في موضع الاهتمام، لا بل أن فكرة "السعي وراء السعادة"، تلك السعادة الفردية التي تُقدَّم على كل شيء، كانت حاضرة في ثقافات عدة، وتعلّمت أجيال متعاقبة تقديس الفردانية وتكريس الذات بوصفها غاية الغايات.
لعلنا لا نستطيع، في هذا الزمان، الذي وفرت فيه وسائل الاتصال الحديثة القدرة على الوصول إلى الآخرين وإلى أنفسنا، أن نمنع أنفسنا من طلب الجمهور، خاصةً حينما نجد أن هناك من يتأهب دومًا للاستماع إلينا والمشاركة في قصصنا. فكما يذكر عالم النفس مايكل جي ويتر، إن متلازمة "الشخصية الرئيسية":
ليست سوى نتيجة طبيعية لنزعة الإنسان العميقة في طلب الاعتراف والتقدير، والتي تتكامل مع تسارع تطور التكنولوجيا، مما يمنح الفرد القدرة على الترويج الفوري الواسع لذاته. هؤلاء الذين يستعرضون صفات متلازمة الشخصية الرئيسية إنما ينشئون لأنفسهم قصصًا تتطلب وجود الجمهور، إذ لا قيمة للقصة أو الفيلم إن لم يكن هناك جمهور يصدق أو يتفاعل.
وتأتي وسائل الإعلام، ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، لتسهل لنا تجسيد أساطير "الشخصية الرئيسية" الخاصة بنا؛ إذ نستطيع تحميل الصور، ومقاطع الفيديو، والأفلام التي تصورنا ونختار من خلالها كيف ينظر الآخرون إلينا. بتقنيات الضوء والزوايا والفلاتر، نتحكم في التفاصيل الدقيقة، وننسج صورًا توحي بالأهمية والجاذبية، وندفع الآخرين للتصديق بأننا حقًا الشخص الأهم في حياتنا. ولعل المؤثرة آشلي وارد على تيك توك قد أصابت القول حينما ذكرت في عام 2020:
يجب أن تبدأ بجعل حياتك شاعرية، وأن ترى نفسك كالشخصية الرئيسية فيها؛ إذ إنك إن لم تفعل، فإن الحياة ستمضي بك دون أن يلاحظك أحد.
إن هذا التصور يضعنا أمام فكرة أن عدم رؤيتك أو ملاحظتك كفرد ذو أهمية إنما يعني تحويلك إلى مجرد شخصية غير لاعبة، لا دور لها في أحداث الحياة. ذلك أن رؤيتك هي التي تمنحك الإحساس بالسعادة، وتفرض عليك أن تثبت للآخرين أنك سعيد وناجح وأفضل من تلك الشخصيات غير اللاعبة، مما يتطلب اهتمامًا دائمًا بصورة الفرد، وسرده الخاص، وذاته. وفي ظل هذه المعادلة، من لا يكن هو "الشخصية الرئيسية" في القصة، فلا بد أنه سيكون شخص آخر، وهذا ما يراه الكثيرون مصيرًا لا يُحتمل.
ومع هذا، قد لا يكون من الصواب أن نُلقي اللوم كله على وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي فقط، فربما كان ظهور "الشخصيات الرئيسية" متوقعًا في بيئات كانت تتسم بالنرجسية والأنا منذ زمن، مثل السياسة والمؤسسات الأكاديمية وغيرها من المجالات العامة. إننا نجد من بين الشخصيات العامة من يصر على أنه "وحده القادر" على حل أزمات الأمة، ومنهم من يصرح بأن الحقيقة لديه وحده، وغيرهم من السياسيين الذين يخلطون بين الشهرة والكفاءة. وهكذا، نجد متلازمة "الشخصية الرئيسية" قد أصبحت القاعدة السائدة.
بيد أن هناك متهمين آخرين في هذا السياق، لعلهم أسوأ من غيرهم، وأخص منهم الأكاديميين والمؤثرين الاجتماعيين. فهناك شريحة من الأكاديميين، الذين يسعون لتسويق أنفسهم كـ"قادة الفكر" أو "المؤثرين" الذين يحملون رؤية طويلة الأمد أو فكرًا مؤثرًا. وهذه المجموعة الفرعية تجد أن فكرة "الشخصية الرئيسية" تتجلى بقوة خاصة في المجال الأكاديمي، بدعم من متبرعين ومؤسسات تستثمر في تعزيز صورهم.
ولا يمكننا في هذا السياق أن نتغافل عن تأثير أفكار الفيلسوف بيتر سينجر، في مقاله الشهير "المجاعة، والوفرة، والأخلاق" (1972)، الذي ينادي بمسؤولية أخلاقية على الجميع لتقديم أكبر قدر ممكن من الخير بأعلى كفاءة ممكنة، وبغض النظر عن الحدود الجغرافية. ويرى أنصار هذا المبدأ، "الإيثار الفعال"، أننا ملزمون أخلاقيًا بأن نحقق أكبر قدر من النفع لأكبر عدد من الناس، مما يعزز فكرة أن الفرد يمكنه أن يكون الشخصية الأهم في قصة تمتد آثارها لتشمل العالم بأسره.
إن مناهج التفكير البعيد الأمد قد وصلت بالتفكير النفعي إلى أفق أبعد مما كان يعرفه الناس من قبل. إنها رؤية تحمل في طياتها وعداً بتحقيق السلامة للبشرية من تلك المخاطر الوجودية التي تهددها، مثل تغير المناخ والحروب النووية والكوارث السماوية وأخطار الذكاء الاصطناعي الانتقامية. وقد يمتد واجب الالتزام بأخلاقيات التفكير البعيد الأمد ليشمل مسؤولية الأجيال المقبلة، بإعتبار أن ذلك هو أعظم أولويات البشرية الأخلاقية على الإطلاق.
ولنا في الفيلسوف الأخلاقي ويليام ماكسكيل مثالٌ بين على هذا الاتجاه. ففي كتابه "ما ندين به للمستقبل: نظرة على مليون سنة" الصادر عام ٢٠٢٢، يعبر عن هذا الالتزام البعيد الأمد نحو الأجيال المقبلة، وقد حظيت أفكاره بتأييد الباحثين في معهد مستقبل الإنسانية سابقاً بجامعة أكسفورد، وهو المعهد الذي أنشأه فيلسوفٌ آخر من أصحاب هذا التفكير، وهو نيك بوستروم. وما الرسالة العامة إلا أن نفهم ضرورة مواجهة هذا التحدي، وأن نعي صعوبة حصر الموارد المحدودة لخدمة الجيل الحالي، إذ إن في ذلك إغفالاً للواجب الأخلاقي الذي يقضي بتحقيق الفرص لرفاه الأجيال القادمة، التي ستفوق أعدادها أعدادنا بما لا يقاس. إن الفشل في مواجهة هذا التحدي، إن شئنا الحق، هو جريمة أخلاقية.
ولنا أن نتساءل: ما هي المشكلة إذن؟ وكيف يمكن لهؤلاء الأكاديميين، ومن يقف خلفهم من الممولين، أن يحققوا معايير متلازمة الشخصية الرئيسية؟ إن الجواب يكمن في فرضيتين أساسيتين يتبناهما أنصار الإيثار الفعال والتفكير البعيد الأمد؛ أولاهما: أن الحسابات النفعية التي تؤطر هذين المنظورين تجعل احتمالية وجود عدد كبير جداً من البشر في المستقبل تبرر تحويل البشر الحاليين إلى مجرد شخصيات ثانوية في المسرحية الكبرى. فهم يقولون لنا، بجرأة عجيبة، إن معاناتنا الحالية قد تكون هي القربان الذي سيمنح المستقبل فرصة للنجاة! وثانيتهما: أن رفاه الأجيال الحالية يُعتبر مسألة أقل أهمية مقارنةً بالمستقبل، وبالتالي يرى هؤلاء المفكرون أنه من المبرر أن يوجّهوا البشر الحاليين نحو القرارات الصحيحة، كاختيار المهن المناسبة، ودعم القضايا الجديرة، وتحمل التضحيات اللازمة. وهذا النوع من التلاعب ليس مسموحاً فحسب، بل يُعتبر واجباً أخلاقياً. وبما أن قيمة البشر الحاليين تصبح مجرد شيء ثانوي، فإن ذلك يتيح للشخصية الرئيسية أن تؤدي دورها في هذه المسرحية بكل أريحية، غير آبهة بالآخرين الذين يُهملون دون اعتبار لقيمتهم.
ومع ذلك، فإن الاهتمام المتبادل يظل ذا قيمة كبرى. ففي رواية هاوردز إند لإي إم فورستر، نجد العبارة الموحية: "تواصل فحسب!" وهي دعوة في عالم يتجه لتدمير ما تبقى من الترابط الإنساني، لربط شتات النفوس وتوحيد الإنسانية المتبعثرة. ولكن مع ذلك، نشعر وكأننا ننجرف في عالمٍ يغدو مسرحاً يتكاثر فيه من يتفاخرون ويتباهون، ليس سعياً فحسب إلى الإعجاب، بل إلى فرض الذات بقوة وبكل ما أوتوا من حيلة ومهارة.
لدينا، ولا شك، الكثير من أسباب الإحباط، لكن هل كانت الإنسانية يوماً بعيدةً عن أسباب الكآبة؟ إن الثورة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، بنطاقها الواسع ونداءاتها المغرية لسرد حكايات البطولة الفردية، ليست سوى تعبير حديث عن هواجس قديمة مرتبطة بالذات، والهوية، وأهمية الفرد الشخصية. لكن هذا هو عصرنا، وهذه هي لحظتنا، ومن اللائق أن نسعى للاستجابة بأفضل ما لدينا. ومن هنا، ومع أنني لا أزعم امتلاك الحل النهائي، أو حتى أي حل جذري، للتصدي للأضرار الأخلاقية التي تسببت فيها متلازمة الشخصية الرئيسية، فإنني أرى أننا قد نبدأ بطرح الأسئلة: ماذا نفقد فى هذا المسار؟ ولماذا علينا أن نسعى لإنقاذ ما نفقده؟
أجد أن السرديات الذاتية التي نخلقها جزء أساسي من كينونتنا، فمن خلال القصص التي نرويها عن أنفسنا وعن العالم، نصل إلى فهم من نحن ولماذا وكيف يمكن أن نصير. ولكن نوع السرديات القائم على فكرة الشخصية الرئيسية السائد اليوم لا يسهم في بناء هويات مشتركة بقدر ما يعزل الفرد عن الآخر، مقللاً من تعقيد العلاقات الإنسانية إلى ثنائيات بسيطة، بين "أنا" و"ليس أنا"، و"نحن" و"هم"، و"بطل" و"شرير". وبدلاً من أن نكون شركاء ومشاركين في بناء هوياتنا المتشابكة، ينتهي بنا الأمر في منافسة استهلاكية سطحية نحو لقب "الشخصية الرئيسية الوحيدة". وهكذا، نصبح في تنافس محموم، وفي لعبة صفرية يُقدر فيها القليل من المنتصرين والكثير من الخاسرين، ومع تلاشي إمكانية بناء هويات متعاونة ومترابطة، نشعر بالمزيد من العزلة، ونتلاشى في عالمٍ خالٍ من الاهتمام المتبادل، وكأننا فقدنا جزءاً من إنسانيتنا.
ويفتقر هذا النوع من السرديات إلى ما يسميه علماء النفس والفلاسفة "نظرية العقل" – وهي الفكرة التي تجعلنا ندرك أن للآخرين حالات ذهنية ووجدانية مماثلة لنا، وليسوا مجرد شخصيات هامشية في سردياتنا الكبرى. إن هذا الفقر في التفاعل مع الآخرين كأشخاص ذوي قيم مماثلة لقيمنا، يشبه إلى حد بعيد النزعة النرجسية. ويقول الفيلسوف فتغنشتاين إن مفهوم "التشابه العائلي" يشير إلى أن الأفكار والممارسات يمكن أن تتصل عبر سلسلة من التماثلات المتداخلة، تماماً كالحالة التي نراها هنا.
التشابه بين متلازمة الشخصية الرئيسية والنرجسية واضح؛ إذ كلاهما يفتقر إلى "الكفاءة الأخلاقية"، وهي الكفاءة التي تحدث عنها الفيلسوف ألكسندر فاتيتش عام 2023، وعرّفها بالعجز عن اختبار المشاعر الأخلاقية كالتعاطف، والتضامن، والوفاء، والحب. يعكس هذان المفهومان رفضًا لكوننا كائنات متصلة ببعضها البعض؛ فكأنما يتخذان من السخرية من الروابط الحقيقية بين الناس فضيلة. وحين يعرقل هذا العجز الأخلاقي سبل الاتصال، تصبح متلازمة الشخصية الرئيسية والنرجسية دليلًا على الفشل الأخلاقي، ذلك الذي حذرنا منه الكاتب إدوارد مورجان فورستر.
ثم هناك كلمة أخرى، كلمة الحب. ألبير كامو، في دفاتره، يبوح أنه لو كتب عن الأخلاق:
لتركت معظم الصفحات بيضاء، وكتبت في آخرها: "ليس علي إلا واجب واحد، وهو أن أحب".
وبعده جاء الفيلسوف هاري فرانكفورت ليخبرنا أن الحب، رغم ضرورته، محفوف بالمخاطر؛ إذ يجعلنا بلا حدود في احتياجنا للآخرين.
الكثيرون ممن يقعون في قبضة متلازمة الشخصية الرئيسية يسعون إلى أن يكونوا محبوبين، لكن سلوكهم يجعل الحب العميق عسير المنال. والحب هنا لا يقتصر على الرومانسي فقط، بل يشمل مشاعر رقيقة تجمعنا بأصدقائنا وأفراد عائلتنا، بل حتى بالغرباء. هذا الحب يتطلب استعداداً لقبول ضعفنا واختلافاتنا، ويستدعي رؤية المحبوب كغاية وليس وسيلة. أما متلازمة الشخصية الرئيسية، فتميل إلى تشييء الآخر، وتحوله إلى أداة يستفاد منها أو يُهمل.
لكن، هل هناك حقًا "واجب للحب" نخونه حين نعيش تحت وطأة متلازمة الشخصية الرئيسية؟ ربما كانط سيقول إنه على الأقل يجب ألا نعامل الآخرين كوسيلة. لكن هذا ليس كافيًا لو أمعنّا النظر في قول كامو؛ فالحب هو رحلة إلى عالم مجهول، تجربة اتصال مع الآخر لا تعدنا بالمكافآت، ولا بالنجاح، ولا تعترف بالرابحين والخاسرين. الحب هو تحدٍّ للنفس، وهو أيضاً استعداد لمواجهة الغموض في الآخر. إيمانويل ليفيناس يذهب إلى أن الغيرية – أو عدم وضوح الآخر بالنسبة لنا – هي مبدأ كل أخلاق، وربما أيضاً بداية الحب. فالآخر، بوجوده، يخرجنا من أنانيتنا، ويطلب منا أن نتحمل المسؤولية؛ وهذا يختلف تماماً عن الإعجابات والمتابعين مجهولى الهوية على مواقع التواصل.
الكثير ممن يسعون للحياة كـ"شخصيات رئيسية" يبحثون عن الحب أو القبول أو عن الشعور بأهميتهم، ويبتغون مشاعر معينة أو "أجواء" خاصة. لكن الحب أكثر من مجرد شعور. إريك فروم، في فن الحب، يصفه كفن يحتاج إلى التواضع، والشجاعة، والإيمان، والإنضباط. وبالنسبة له، الحب "نشاط، وليس موقفاً سلبياً" – فلا يكفي أن نشعر بالحب، بل يجب أن نتحمل مسؤولية رعاية المحبوب. لكن متلازمة الشخصية الرئيسية تنكر علينا هذا، وتدفعنا للعيش كأن كل تفاعل هو صفقة، وكل تقدير موجه نحو الذات.
إذن، إلى أين نذهب من هنا؟ إن متلازمة الشخصية الرئيسية ليست لغزاً يمكن حله بقائمة من الأفعال والمحظورات، وليست مشكلة اجتماعية يمكن حلها بالقوانين، بل هي دعوة إلى رحلة داخلية لما يسميه جوزيف كامبل "ليل الروح المظلمة". ربما يعني هذا أن نصادق وحدتنا وضياعنا، وأن نعيد التفكير في الفارق بين الأداء والتواصل الحقيقي، وأن نتحلى بالجرأة لنكون معرضين للفشل. قد يعني هذا أيضاً أن نرى أنفسنا دائماً ككائنات ناقصة، وأن نقبل بأن الإشباع المطلق قد لا يكون ممكناً، وأن الحياة ليست قصة انتصار فردي، والآخرون ليسوا مجرد شخصيات ثانوية.
أما أنا، فأستمد من مسرحية صامويل بيكيت نهاية اللعبة مقولة: "أنت على الأرض، ولا علاج لذلك!"
مترجم من aeon بقلم آنا جوتليبس، أستاذة فلسفة بكلية بروكلين، متخصصة في الأخلاقيات النسوية والفلسفة الاجتماعية.
مقال رائع