من هم جماعة الإنسلز ؟ و ما خطورة لغتهم و تفكيرهم ؟
من أعماق الإنترنت القذر... عامية جديدة تطفو على السطح وتغزو اللغة الرقمية
قال لي صديقي في إحدى الأمسيات، وهو يسكب مسحوق البروتين في زجاجته، وعلى وجهه ابتسامة لا تخلو من التهكم: "صرتُ مؤخرًا أواظب على التمارين الرياضية بشراسة(الجيم-ماكسنج)."
فلم أشأ أن يفوته المرح، فأجبته ممازحًا: "وأنا أيضًا، أكرّس نفسي لبناء العضلات (بروتين-بيلد)."
لاحظتُ، كما لاحظ كثير من أبناء جيلي، أننا بتنا نستخدم مفردات جديدة، لم نكن نعرفها من قبل. ليست هذه اللغة شائعة على ألسنة الجميع، لكنها مألوفة في أوساط الشباب الذين يقضون ساعات طويلة يغوصون في أعماق الإنترنت. وأعترف أنني بدأت أشعر بأن عبارة "مدمنو الإنترنت" صارت مكررة، وربما باتت مبتذلة.
الكلمات الغريبة التي نتداولها اليوم بيننا تنتمي في الأصل إلى ما يُعرف بثقافة "الإنسلز"، وهي اختصار لعبارة Involuntary Celibates، أي "العُزّاب غير الطوعيين"، وهم جماعة من روّاد الإنترنت اشتهروا بكراهيتهم الشديدة للنساء، واعتبرهم كثيرون من بين أكثر الجماعات تطرفًا في نظرتهم العدائية للآخر.
وقد يكون من المفيد هنا، للقارئ الكريم، أن نستعرض باختصار بعض المفردات التي يتداولها هؤلاء، والتي بدأنا نسمعها في أحاديث بعض الشباب:
تشاد أو جيجا تشاد: يُطلق هذا الوصف على الرجل الذي يُعتبر مثالًا على "الرجولة المفرطة" كما يتخيلها هؤلاء؛ وسيم، قوي البنية، وناجح مع النساء.
مانليت: لفظ ازدرائي يُقال عن الرجل قصير القامة، وكأنهم ينقصون من رجولته بسبب قصره.
نورمي: يستخدمونه للإشارة إلى من يعيش حياة "تقليدية"، دون تميز أو اختلاف، وكأن روتينيته تجعله عديم القيمة.
NPC: مأخوذ من ألعاب الفيديو، حيث تعني "الشخصية غير القابلة للتحكم"، ويقصدون بها الإنسان الذي يبدو كأنه مبرمج، يكرر ما يسمعه دون وعي أو تفكير.
ماكسنج (Maxxing): لاحقة تُضاف إلى أي مجال للدلالة على سعي المرء إلى تحسين نفسه فيه بأقصى ما يستطيع، مثل "جيم-ماكسنج" أي الإفراط في التمارين فى الجيم.
بيلد (Pilled): مشتقة من فيلم "الماتريكس"، وتُشير إلى استيعاب فكرة ما إلى درجة تغيّر نظرة الإنسان للعالم، وكأنها أقراص فكرية تفتح له باب الوعي.
وإذا أراد القارئ الاطلاع على المزيد من هذه المصطلحات، فشبكة الإنترنت مليئة بقوائم تشرح هذه اللغة الغريبة التي يتداولها هؤلاء.
لكن الأمر يتجاوز الألفاظ. فهذه الجماعة ليست مجرد مجموعة من الساخطين على النساء. ففي عام 2014 وقعت حادثة مروعة في ولاية كاليفورنيا، حين قام شاب ينتمي إلى هذه الجماعة، يُدعى إيليوت رودجر، بقتل ستة أشخاص وجرح أربعة عشر، قبل أن ينتحر. وقد دفعت هذه الجريمة المروعة السلطات الأمريكية إلى إصدار تقارير أمنية خصّصت فيها الحديث عن هذه الفئة، محذّرة من خطرها. وفي عام 2022، نشر جهاز الخدمة السرية الأمريكي تقريرًا خاصًّا عن العنف الذي يصدر عنهم. كما كُتبت مقالات وتحليلات كثيرة تناولت خطورتهم، ومنذ ذلك الحين، تكررت أحداث مشابهة، لا سيما في مدينة نيويورك، مما أثار نقاشًا واسعًا حول العنف الذي يُمارس بدوافع أيديولوجية ضد النساء.
وبعد أن انتهى الحديث مع صاحبي الذي كان يتفاخر بممارسة التمارين الرياضية "بأقصى طاقته - ماكسنج"، وجدتني حائرًا: ما الذي يجعل أصدقائي يرددون هذه العبارات التي تنتمي إلى عالم "الإنسلز"؟ لماذا بدأت هذه اللغة تتسلل إلى أحاديثهم؟ فنحن، على ما نظن، لسنا من أتباع كراهية النساء. بل نعدّ أنفسنا من المتعاطفين مع قضايا العدالة، ومن الداعين إلى المساواة. نحن أقرب إلى الفكر اليساري، ونتعاطف مع الحركات النسوية، ولا نشعر بأي تعاطف مع جماعة "الإنسلز"، بل نراهم في صورة بائسة، مضحكة أكثر منها خطرة. هم، في نظر غالبية الشباب، مجرد هامش اجتماعي، أو حتى نكتة عابرة، لا يأخذها أحد على محمل الجد.
لكن مع ذلك، تبقى الأسئلة قائمة: لماذا تُغرينا هذه المصطلحات؟ هل لأن فيها بعض المرح؟ أم لأنها تعبّر عن توتر خفيّ لا نجرؤ على الاعتراف به؟ وهل من الحكمة أن نتبناها ونحن نرفض ما تمثّله؟
لكي أفهم هذا العالم الغريب، لم يكن أمامي سوى أن أنزل إلى ساحته، أن أراه بنفسي لا بأحاديث الآخرين. فتصفحت المنتديات التي يرتادها المنتمون إلى جماعة تُعرف باسم "الإنسلز"، وهي تسمية اختصارية تُطلق على فئة من الشباب يعانون عزوفًا قسريًّا عن العلاقات العاطفية كما ذكرنا. وبينما كنت أقرأ في أشهر هذه المنتديات (المسمى Incels.is)، شعرت أنني في مستشفى نفسي لا مأوى فيه إلا لأشخاص يغلب عليهم كره النساء، وتسيطر عليهم الهواجس والشكوك، ويعيشون تحت وطأة انعدام الأمان النفسي، حتى إن بعضهم يتقمّص شخصية "الباحث الاجتماعي"، لكنه في الحقيقة لا يبحث عن فهم، بل عن تبرير اضطرابه.
ويجدر بي، بل يجب عليّ، أن أنبّه القارئ الكريم إلى أن ما سيأتي في هذا الحديث قد يبدو جارحًا في ألفاظه، ومؤلمًا في مضمونه، بل قد يراه البعض مسيئًا لِمن لم يألفوا هذا النمط من التفكير والسلوك.
ففي هذا المنتدى وجدت مزيجًا غريبًا من العنصرية، وصور فاضحة تفتقر إلى أدنى درجات الحياء، حتى إن أحدهم تخيّل نفسه يمارس الجنس مع شخصية خرافية من أفلام الأطفال. كما صادفت منشورات تفيض بالوحدة واليأس، منها ما حمل عنوانًا يقول بكل صراحة: "لا يهمني من الحياة سوى أن أجد صديقة". وقرأت منشورات تنشر نظريات مؤامرة عبثية، كمن كتب قائلًا: "لقد هزمنا مكتب التحقيقات الفيدرالي بخطة بارعة".
أما النصائح حول العلاقات العاطفية، فبعضها بدا أبعد ما يكون عن العقل. أحدهم كتب: "تايلاند لن تبقى مفتوحة طويلًا، فاستغل الفرصة قبل أن تُغلق الأبواب." هذا المنشور، في ظاهره عابر، لكنه في الحقيقة يجسد خلاصة تفكير هذه الجماعة؛ إذ يمزج بين الأوهام العرقية، والنظرة العدديّة للجنس، وشعور دائم بالاضطهاد.
فقد زعم أن تايلاند، هذا البلد الذي يعده سوقًا مفتوحة للرجال الغربيين الباحثين عن النساء، سيتوقف عن كونه كذلك قريبًا، والسبب – في رأيه – هو انخفاض معدل المواليد منذ أكثر من عقد. وأن الخيارات القادمة ستكون محصورة في دول أخرى مثل دول أفريقية أو دول مضطربة كالعراق وأفغانستان. ويستخدم في حديثه كلمات تنتمي إلى عالم "الماكسنج"، وهي تعني في لغتهم تخصيص الجهد بالكامل لهدف ما، كأن يقول "أفغانستان-ماكسنج"، أي البحث عن فرص العلاقة في أفغانستان. إذ ستغرق تايلاند بالمنافسين الأجانب، ولن يعود فيها ما يكفي من "المهابل" – كما يسميهن – لمن يرغب.
وكلما قرأت في هذا الخطاب المشوش، زاد عجبي من الطريقة التي تتسرّب بها هذه الثقافة الهامشية، بكل ما تحمله من عنف وتحامل، إلى لغة الشباب، بل إلى من نظنهم محسوبين على التيارات التقدمية واليسارية. ألسنا نحن من يُفترض أن نكون أكثر وعيًا بحقوق النساء، وأكثر حساسية تجاه مظاهر الإقصاء والتمييز؟ فكيف وصل هذا الخطاب المُهين إلى مسامعنا، بل إلى ألسنتنا؟
ثم بدأت أدرك أن التمييز بين هذه الفئة المتطرفة وبين كراهية النساء التقليدية لم يكن واضحًا كما كنت أظن. فالفكرة القائلة بأن "للرجل حقًّا طبيعيًّا في الجنس مع من يشاء" ليست اختراعًا جديدًا، بل هي جذر قديم للعنف الذكوري. لكن ما استوقفني هو الطريقة التي امتزج بها هذا التحيّز القديم مع ثقافة الإنترنت، فخلق صورة جديدة، مروعة، تتجاوز مجرد الكراهية.
ومن بين أكثر ما حيّرني منشور قرأته بعنوان "الماركسية الرودجرية – ما رأيكم؟"، والمقصود هنا إيليوت رودجر، الشاب الذي ارتكب مجزرة عام 2014. كان المنشور يحاول أن يُسقط مفاهيم الصراع الطبقي على العلاقات الجنسية، فصنّف الرجال إلى "نخبة" من المحظوظين الذي تحتكر الجنس و يحظون بالاهتمام النسائي – وسماهم بـ"التشادز"، وهي تسمية تهكمية – في مقابل "الطبقة المحرومة" التي وصفها بـ"البروليتاريا الجنسية" ، المحرومون من العلاقات. ودعا كاتبه إلى وعي ثوري خاص بجماعة الإنسلز، يسعى إلى "إسقاط الطبقة التشادية البرجوازية" التي تحتكر – حسب زعمه – سوق العلاقات الجنسية.
وقد بدا لي هذا الطرح تشويهًا صريحًا للفكر الماركسي، إذ أُقحم في سياق لا يمتّ إليه بصلة. لكن سواء أكان كاتبه جادًّا أو ساخرًا، فإن ما طرحه كشف – رغم ما فيه من التواء – عن فهم معين لمفاهيم مثل الطبقة والقوة والسوق. وهذا الفهم، وإن بدا مشوشًا، ساعدني على إدراك جانب من منطق هذه الجماعة. كنت قد سمعت سابقًا أن خطابهم لا يتجاوز كونه امتدادًا للنظام الذكوري التقليدي، لكن هذا التفسير لم يكن كافيًا. كان هناك ما هو أعمق، ما يجعل هذه الظاهرة أكثر عنفًا وتطرفًا من مجرد كراهية تقليدية. هل يمكن أن يكون هذا التطرف امتدادًا كامِنًا في بنية الاقتصاد السياسي نفسه؟
إن الفكرة المحورية في خطاب هذه الجماعة هي ما يسمونه "القيمة السوقية الجنسية"، أي أن لكل إنسان – خصوصًا الرجل – قيمة تُقاس بعوامل مثل الطول، وتناسق الوجه، والوضع المالي، وهذه العوامل، حسب ظنهم، تحدد حظّه في ما يسمونه "سوق العلاقات الجنسية". وكما هو الحال في السوق الاقتصادية، فهناك رابحون وخاسرون، ومن يحققون النجاح ومن يُقصون منه.
ويستندون في هذا إلى قاعدة تُعرف في الاقتصاد باسم "قاعدة 80/20"، وهي تقول بأن نسبة صغيرة من الناس (20%) تستأثر بأغلب الفرص أو ثروة الـ (80%). وهم يطبقون هذه القاعدة على العلاقات، فيعتقدون أن 80% من النساء ينجذبن فقط إلى 20% من الرجال، أي أن أغلب الرجال – في ظنهم – لا فرصة لهم في نيل الاهتمام العاطفي أو الجنسي.
ويذهب بعضهم إلى ما هو أغرب من ذلك، فيزعمون أن القوانين المعاصرة التي تنظم سنّ الرضا في العلاقات رفعت من "القيمة السوقية" للنساء، لأن هذه القوانين – بزعمهم – قللت من عدد النساء "الخصبات المتاحات"، على حد تعبيرهم المريب. فقللت من عدد النساء "المتاحات"، أي اللواتي يمكن للرجال الوصول إليهن، مما زاد من حدة المنافسة، وجعل "السوق" أكثر قسوة. وهذا التصور يجعل من العلاقات الإنسانية معادلة باردة تحكمها الأرقام، لا المشاعر أو الاحترام المتبادل.
ورغم أنهم يصورون هذا "السوق الجنسية" كقوة تتحكم في كل شيء، فإنهم لا يؤمنون بحرّيته، أي لا يريدون أن تترك الأمور لاختيارات الناس، كما تفعل الرأسمالية. بل على العكس، فهم يطالبون بسلطة مركزية – كما في بعض النظم الاشتراكية – تتدخل في توزيع "العلاقات" بين الناس، ويبلغ بهم التطرف حدًّا يجعلهم يدعون إلى نظام يشبه نظام القمع ، يعيد توزيع الجنس كما تُوزَّع الثروة في بعض النظم الاشتراكية. بل إن إيليوت رودجر، في بيانه الطويل الذي بلغ 107,000 كلمة، دعا صراحةً إلى معسكرات للنساء، يُفرَزن فيها للتكاثر أو يُباد بعضهن، حتى تنتهي المنافسة، ويُلغى استقلال المرأة، ويُعاد تنظيم السوق الجنسية بما يخدم احتياجات الذكور.
وقد يفترض البعض أن هذه اللغة السافرة التي يستخدمها "اليمين المتطرف" تُستعمل بينهم على سبيل السخرية أو التفاخر الفج. لكن المدهش أن هذه اللغة نفسها أخذت تتسلل إلى ألسنة بعض الشباب من ذوي التوجهات الليبرالية أو اليسارية، أولئك الذين يُفترض أنهم أصحاب وعي نقدي، ورفض لأشكال الإقصاء، لا مَن يرددونها كأنها أمرٌ مألوف.
لكن ما حدث لم يكن مجرد تقليد أعمى، بل أشبه بعملية "انتقاء لغوي"، حيث انحدرت بعض الكلمات إلى ألسنة الشباب، بينما بقي بعضها الآخر في هامش النسيان. فمثلاً، لم تجد بعض الألفاظ الفجّة سبيلًا للانتشار، مثل وصف المرأة التي تُعرف بتعدد علاقاتها بـ"روستي"، وهي لفظة تحمل دلالة تحقيرية، أو نعتها بـ"فيمويد"، أي جعلها كائنًا أنثويًا بلا ملامح إنسانية. لم تنتشر هذه الألفاظ، وكأن بقايا الذوق أو الحياء في النفوس قد حالت دونها.
فما السبب إذًا في أن بعض هذه المفردات قد انتشر، فيما بقي غيره حبيس الزوايا؟ ما الذي يجعل كلمة ما تنتقل من فضاء معزول إلى الحديث اليومي؟
الذي بدا لي أن الكلمات التي راج استعمالها بين الشباب في هذا العصر، هي تلك التي استطاعت أن تُخفي عداءها الأصلي للنساء، وتتنكّر في صورة حيادية توحي بالوصف لا بالتحقير. فهي لم تعد تبدو كأنها تنتمي إلى قاموس الكراهية، بل تحوّلت إلى أدوات تُستخدم في تصنيف الناس، وفي التعبير عن المكانة أو القدرات.
فمثلاً، اللاحقة "-ماكسنج"، التي تُضاف إلى الكلمات لتدل على بلوغ الحدّ الأقصى من شيء ما، أصبحت تُستعمل على نحو واسع بمعنى الاجتهاد في تحسين الذات أو تطوير المهارة؛ كأن يقول أحدهم "جيم-ماكسنج"، أي الإقبال المكثف على الرياضة وبناء الجسد. كذلك، اللاحقة "-بيلد"، التي تدل على تبنّي فكرة ما أو سلوك معين بطريقة مبالغ فيها، صارت تُشير إلى شكل من أشكال الإيمان بشيء كأنه عقيدة شخصية.
أما كلمة "تشاد"، فهي ترمز في هذا الخطاب إلى النموذج المثالي من الرجال، في نظر من يتبنون هذا الفكر: طويل، قوي، وسيم، ناجح مع النساء. أما "مانليت"، فهي وصف ساخر يُطلق على من يفتقر إلى تلك الصفات، ويُعدّ في مرتبة دنيا على سلّم الهيمنة الذكورية. وكلمة "نورمي" تُستخدم لتحقير من يعيش حياة تقليدية عادية، دون تميّز أو اختلاف، وكأنه فرد من قطيع يسير دون وعي – وهي فكرة متأثرة بفلسفة نيتشه التي تنظر بريبة إلى الجماهير وتُعلي شأن الفرد المتفرّد.
ما جذب الناس إلى هذه الكلمات – فيما أظن – هو أنها تعبّر عن منطق هذا العصر الذي اختزل كل شيء في الأرقام، وقاس قيمة الإنسان بمكانته النسبية، وراح يزن العلاقات بمقياس المكاسب والخسائر. إنها لغة السوق وقد تسللت إلى تفاصيل الحياة.
وحين أصبحت تنشئة الشاب تتم في الفضاء الرقمي، ولم يعد التفاعل الواقعي هو الأصل، صارت العلاقات الإنسانية محكومة بمنطق العدّ والإحصاء. وهذا هو تجلٍّ من تجليات النيوليبرالية، التي لا تكتفي بالسيطرة على الاقتصاد، بل تمتد لتطبع المشاعر، وتُقنّن الخيال، وتضبط حتى العاطفة نفسها. وقد شرحت المفكرة ويندي براون هذا المعنى بقولها إن كلمة "الاقتصاد" لم تعد تكفي لوصف ما يجري، لأن منطق السوق قد غمر كل أوجه الحياة، ولم يترك منها شيئًا على حاله.
وهكذا، أصبح الشاب اليوم ينظر إلى نفسه كرقم في معادلة، يقيس قيمته بعدد من يتابعه على مواقع التواصل، وعدد الإعجابات التي يحصل عليها، ويرى مستقبله في فيديوهات قصيرة تدعوه إلى تحسين الذات. يستلهم معايير الجاذبية من الصور التي تُعرض في تطبيقات مثل إنستغرام، ويتعلّم كيف يقيّم قيمته المهنية أو الاجتماعية من صفحات "لينكدإن"، وكأنه منتَج يُسَوَّق في سوق البشر، وهو سوق تنافسي شديد القسوة.
ولا يظهر هذا المنطق الحسابي الجاف في موضع أوضح مما يظهر في العلاقات العاطفية. فقد تحوّلت هذه العلاقات إلى ميدان يخضع لقوانين السوق، حيث تتحكم فيه تطبيقات المواعدة، تُحكم قبضتها على الحب والرغبة فتقرر من يستحق ومن لا يستحق، ومن يحظى بالقبول ومن يُقصى.
وما شكاوى جماعة "الإنسلز" من قلة فرص التوافق عبر هذه التطبيقات إلا مرآة لقلق أشمل. فهم كثيرًا ما يشتكون من قلة التطابقات، ويبحثون في أسرار الخوارزميات التي تقف خلف هذه التطبيقات، ويقارنون بين خصائص الشعوب المختلفة بحثًا عن تفسيرات لما يعدونه ظلمًا. صحيح أن تفسيراتهم كثيرًا ما تكون خاطئة ومضللة، لكن القلق الذي يشعرون به ليس حكرًا عليهم، بل يشترك فيه جيل بأكمله.
لقد أورثت هذه التطبيقات الشباب شعورًا عميقًا بعدم الثقة في النفس، فهم أصلًا – في حقيقتهم – هشّون، يفتّشون عن الحب والجنس كما لو كانا حقًا مهدورًا. فالنساء كثيرًا ما يشعرن بالوحدة رغم كثرة العروض، والرجال يعانون من شعور بالخجل والدونية والارتباك، وحتى "الإحراج" بصورته الساخرة. ولكي يتفادوا هذا الإحراج، يتعلم الواحد منهم كيف "يلعب اللعبة" – أي كيف يتعامل مع الحب كأنها معركة تُدار بقواعد – فينظر إلى شكله الخارجي، ووظيفته، ونمط حياته، على أنها أوراق رابحة يستخدمها لزيادة فرصه في سوق العاطفة. وكل ذلك يُقاس بردود فعل الناس على الإنترنت، وكأن المشاعر قد تحوّلت إلى أرقام وإشارات رقمية.
ربما كان التزين طلبًا للقبول أمرًا مألوفًا منذ القدم، لكن الجديد في زماننا هو هذا السيل المتواصل من التغذية الراجعة الرقمية، ذلك الذي يجعل الإنسان خاضعًا لصورته، ولموقعه التقييمي، ولمكانته داخل ما يشبه سوقًا كبيرًا تُقاس فيه القيم.
لقد نشأ جيل لا يعرف من الحب إلا ما يُقاس بالأرقام، ولا يرى في المشاعر إلا معاملات تُقارن كما تُقارن السلع، وصار القلب مسرحًا لعلاقات محسوبة وموزونة كأنها صفقات.
وهذا المنطق، الذي يرى أن الفشل في الحب هو في حقيقته إخفاق في التنافس داخل "السوق الجنسية"، ليس محض خيال ولا ادعاء. فها هو تطبيق "تيندر" – أشهر تطبيقات التعارف والمواعدة – قد تبنّى نظامًا خفيًا يشبه ما يُستخدم لتقييم لاعبي الشطرنج المحترفين، يُعرف باسم "نظام إيلو". يُمنح المستخدم نقاطًا كلما نال إعجابًا، ويخسرها عند الرفض، ويُعطى وزنٌ أعلى لإعجاب من يملك تصنيفًا مرتفعًا، فينتشر حسابه ويزداد ظهوره، بينما يغوص حساب غير المرغوب فيه في غياهب النسيان. (وتدّعي الشركة اليوم أنها تخلّت عن هذا النظام، لكن أثره لا يزال واضحًا.)
وهكذا، لم تعد فكرة "السوق الجنسية" مجرد هوس عند بعض الفئات المتطرفة، بل صارت واقعًا رقميًّا ملموسًا، حيث يُصنَّف الناس ويُرتبون بحسب ما يملكون من أرقام تحدد مكانة الفرد في هرم الجاذبية.
وإن كانت حالة "تيندر" هي الأوضح، فإنها مجرد نموذج مصغّر للطريقة التي جعلت بها وسائل التواصل الاجتماعي العلاقات الإنسانية كلها خاضعة لمنطق العدّ والحساب. فحين اجتاحت الجائحة العالم، وفرضت علينا العزلة، أُجبر الشباب – أولئك الذين نشأوا في كنف العالم الرقمي – على قضاء وقت أطول أمام الشاشات. وهناك، أصبح وجودهم الاجتماعي مرتهنًا بشركات التكنولوجيا، التي لا تهدف إلى التواصل بقدر ما تهدف إلى جمع البيانات وتحقيق الأرباح، وتصنيف المستخدمين بما يخدم استمرارية تفاعلهم. أما النتائج الاجتماعية لهذه السياسات، فليست إلا عرضًا جانبيًا لا تعيره هذه الشركات اهتمامًا، إلا إن أفادها.
وقد أصبحنا، شيئًا فشيئًا، نتقبّل هذا الواقع دون مقاومة، كأننا لم نعرف يومًا غيره. عالمٌ غريب، يُحدد فيه الإنسان بما يُمنح من نقاط، وتُقاس فيه العلاقات بالتقييمات، وتُختزل الذات في ترتيب رقمي، وهذا ما لم يعرفه البشر من قبل.
وفي خضم هذا الواقع، وفي لحظة بلغت فيها العزلة أقصاها، برزت إلى السطح فجأة تلك اللغة الغريبة، العامية التي ابتدعتها جماعة "الإنسلز".
نعم، لطالما كانت عاميات الشباب هجينة، تدمج بين الأضداد، وكان بعض الشباب اليساريين خصوصًا يميلون إلى تبني "العامية السوداء" – وهي أسلوب تعبير نشأ في أوساط الأمريكيين من أصول إفريقية. واليوم، يصعب التمييز بين هذه العاميات وبين ما يُعرف بلغة "جيل زد" التي وُلدت في الفضاء الرقمي. لكن تبنّي العامية السوداء له سياق اجتماعي وسياسي معروف، أما عامية "الإنسلز"، فلها منطق مختلف تمامًا. إنها كأنها حفريات لفظية انبعثت من أعماق الإنترنت، تعبر عن بيئة نشأت في ظل الرقابة، وتبنت رموزًا مشفرة للتعبير عن أفكار مشحونة بالرفض والكراهية.
وربما كان السبب في ذلك أن مجتمع الإنسلز نشأ في الإنترنت، وتربى في بيئة تخضع للرقابة الشديدة، فاضطر إلى تطوير مجموعة مصطلحات تُناسب هذا العالم. مصطلحات تُعبر عن السوقية التنافسية للحياة الرقمية، وتكشف عن نظرة مفرطة في عدائها للنساء.
فهل ينبغي لنا أن نُطهّر لغتنا من هذه المصطلحات؟ في نظري، لا. استعمال هذه الكلمات لا يعني بالضرورة أننا صرنا من أتباع هذه الجماعة أو متعاطفين مع فكرها. إنها، في الغالب، مجرد أعراض لمرض أعمق، تعكس اختلالًا في البنية الاجتماعية، لا أكثر.
واليوم، حين يخبرني أحد الأصدقاء بأنه "يُمارس جيم-ماكسنج"، أي يواظب على التمارين الرياضية لتطوير جسده، أو أسمع شابًا يساريًّا يصف غيره بأنه "نورمي"، أي شخص عادي لا يملك فرادة تُذكر، قد أضحك أو أبتسم، أو أسايره في لعبته، تلك التي يتخيّل أنها ذروة السخرية الثقافية. لكنني أُصغي، في الوقت نفسه، إلى ما تحت هذا السطح من أصوات.
إني أسمع صدى تنهيدة مكتومة، تنهيدة جيل لم تغادره عزلته قط. جيلٍ تحوّل رأسماله الاجتماعي – أي مكانته في أعين الناس – إلى وحدة مرهقة، إلى شعور دفين بالوحدة لا يُحتمل.
سأضحك، نعم. لكن في ضحكتي شيءٌ من الحزن.
مترجم بتصرف من publicseminar بقلم Jake Neuffer
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي
صدقًا،انها اوّل مرّة لي أصَادف هذهِ المعلُومة وقد ادهشتني حقا،كما انها اول مرة لي اعرف انه هناك من يحتقرون جنس حواء من صميم قلبهم ويالا قذارتهم وانحطاط فكرهم ، قد نبهتني فعلا للغة اصبحت دائما على السنتنا وكم ان لها جانب ظالم ،شكرًا ايها الكاتب على جهدك.
أحسنت