كلُّ الأشياءِ صغيرة كْي تسعني،
إني لَواسِعُ عن آفاقِها أبهى مدى.
في اللا نهايةِ كنتُ أبحرُ، والمنى
لما خَلَقَ الكونَ الممتدِّ ارتدى.
مددتُ يدي نحو الوجودِ فلمستُه،
فذابَ كياني واتَّسعْتُ بلا عِدا.
أوسعُ من رحبِ السماءِ كأنني
بحرٌ يسيرُ على الضفافِ بلا صدى.
كلُّ الوجودِ صغيرٌ لا يحتويني،
وأنتَ تدري، إذ مكانُكَ في المدى.
كل الأشياء صغيرة، هكذا تبدأ قصيدة للمتصوفة الهولندية هاديفيج من برابانت، الشاعرة التي عاشت في القرن الثالث عشر. ثم تُضيف بقولها: كي تسعني، لكنها، في الحقيقة، لم تكن بحاجة لأن تُكمل؛ فكل الأشياء صغيرة، ليس فقط لتسعها، بل لتسع أي شيء. تأمل الكؤوس، كيف هي صغيرة دائمًا، مما يُلزمنا أن نعيد ملؤها دون انقطاع. والأجساد، على صغرها، لا تسع سوى ساكن واحد، إلا في حالات استثنائية كالتي تحدث في غمار التصوف، أو حين تغدو الأجساد مسرحًا لحدث أعظم: الحمل. أما الكتب، فإنها، وإن بدت أحيانًا كبيرة، لا تزال أصغر من أن تحتوي العالم بكل رحابته وضجيجه. موبي ديك، تلك الرواية الملحمية، حتى هي لا تستطيع أن تحتضن الحوت الذي يتصدر صفحاتها، رغم أن ميلفيل حاول، كما يصف الناقد جيمس وود، أن يلمس كل كلمة، كل جملة، في سعيه للامتلاء.
أتذكر ذات مرة أني رأيت رجلًا في مطعم، يأكل طبقًا من المعكرونة ثم يُعيد طلبه مرة أخرى، ليأكله مجددًا، ولم يكتفِ حتى التهم الطبق للمرة الثالثة. هذا المشهد، على غرابته، كان أبلغ رد على تلك الأزمة الإنسانية العتيقة: إننا نعيش دائمًا في مواجهة محدودية الأشياء. فلو كانت الأطباق تتسع بما يكفي، لما اضطر الرجل إلى هذا التكرار.
الأطباق، و الكؤوس، و الكتب، و الأجساد، وكل شيء آخر، ليست صغيرة بسبب ظرف عابر، بل هي بطبيعتها، بجوهرها، كذلك. وهناك شعور خفي، لكنه دائم، يُلازم الإنسان، بأن أكبر رغباته وأعمقها تتجاوز دائمًا حدود الإمكان. حين ترغب في شيء بشدة كافية، فإنك ترغب فيه بدرجة تفوق قدرتك على نيله. ربما يكون هذا الشوق هو الذي دفع بالفلاسفة والمفكرين إلى تخيل وجود الأبدية؛ لأننا، كما يبدو، نحتاج إليها. الرغبة، بحد ذاتها، دليل صادق على الحقيقة، ولكن حتى يحين ذلك الأبد الموعود، علينا أن نجد مكانًا يتسع لشهيتنا. وهناك، في خضم هذا السعي، من يحاول تصغير تلك الشهوات، بدءًا بتقديم التنازلات، ثم اعتبار هذا الانكماش نوعًا من الحكمة أو الفضيلة. هذا ما يُسمى بالتقليلية Minimalism، وهو اليوم طقس رائج.
في كل مكان، نُحاصر بدعوات إلى الصغر: جُمل قصيرة، و كُتب مختزلة، و دعوات للتخلي عن الممتلكات، وممارسات للتأمل تعدك بتصفية العقل من أفكاره، بل حتى حملات تُبشر بضبط النفس الجنسي. لكن هذه المغامرات، رغم اختلاف أشكالها، ترتكب الخطأ ذاته. إذ ليس هناك ما يُبرر أن نحب عالمًا يضيق حتى يشبه الجحيم. كل الأشياء صغيرة جدًا، ولكن بعضها أقل صغرًا من الآخر. وإن كان العوز حتميًا، فلا يزال بوسعنا محاربة الفراغ بالمزيد من الامتلاء. من الأفضل أن تطلب الطبق الثالث من المعكرونة. ومن الأفضل أن تتذوق الكلمات، واحدة واحدة.
أما الحرمان المادي، فهو نوع آخر من الصغر، لكنه الأكثر غباء. إنه لا ضرورة له، ويمكن تجاوزه بإصلاحات سياسية بسيطة. لكنه، مع ذلك، أكثر الأنواع بؤسًا؛ لأنه يعاكس طبيعة الإنسانية القائمة على الفائض. وكما يقول كارل ماركس في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844: الإنسان يختلف عن الحيوان برغباته التي تتجاوز حاجاته. الحيوان، كما يراه ماركس، « لا يُنتج إلا تحت ضغط الحاجة الجسدية »، بينما «الإنسان يُنتج حتى عندما يتحرر من تلك الحاجة، بل إنه يُبدع حقًا عندما يكون في حال من الحرية.»
فوفقًا لرؤية ماركس، لا يعيش الإنسان الكامل حياته فحسب تحت وطأة البقاء، بل وفقًا لما أسماه قوانين الجمال. ولكن الرأسمالية المبكرة، وما صاحبها من تشدد في الاقتصاد السياسي، قلّصت صورة الإنسان إلى كائن يقتصر على طموحات البقاء، متجاهلةً شغفه بالسعي نحو العظمة. ولعل نقد ماركس لمجتمعه يتلخص في قوله إنهم اختزلوا العامل إلى «وحش مقتصر على أشد الاحتياجات الجسدية» ، وهو بذلك يردد أفكار فريدريش شيلر، ذلك الرومانسي الذي تأسف في قوله:
الفن ابن الحرية، يستجيب ليس لمتطلبات المادة، بل للضرورة في عقولنا. في الوقت الحاضر، تسود الحاجة، وتثني الإنسانية المنحنية تحت نيرها الطاغي. المنفعة هي الصنم العظيم للعصر، الذي تأسر له جميع القوى ويجب أن تدفع كل المواهب له الجزية. في هذه الموازين الفظة، لا وزن للفضائل الروحية للفن، وبدون أي تشجيع، يختفي من سوق قرننا الصاخب.
وما زالت هذه العوائق قائمة، فمعظم البشر يمضون حياتهم منشغلين بتدبير سبل البقاء. وحتى أولئك الذين منحهم الحظ فرصة التفكير أو الإبداع، قلما يجدون الحرية لتشكيل الأشياء وفقًا لقوانين الجمال.
وبلغة بسيطة، فإن الأمان المادي يحررنا لننطلق إلى ما يتجاوز حاجاتنا اليومية. فقط عندما ننهي ما علينا من التزامات العناية بالجسد، فقط عندما تُغسل الصحون ونحصل على الخبز، يصبح لدينا الوقت والطاقة لننغمس في تلك اللحظات غير العقلانية التي تتطلبها الفنون. وفقط عندما نطمئن لضمان وسائل العيش الأساسية، نستطيع أن نبدع أشياء غريبة قد لا تجد مكافأة في السوق. بعبارة أخرى، فإن العدالة الاقتصادية ليست مجرد رفاهية، بل هي شرط لتحقيق الإنسانية الكاملة، لأنها مفتاح التفوق.
كما يقول أودن، «الشعر لا يجعل شيئًا يحدث»، لكنه يبقى طريقة «للحضور، وصوتًا يتكلم.» لا نأكل الشعر، ولا نرتديه، ولا يمكن العيش فيه، ومع ذلك يبقى جزءًا لا يُفنى من جوهر الحياة. وكما قالت إدنا سانت فنسنت ميلاي عن الحب، الذي يشبه الشعر في عدم نفعه المادي، «ليس لحمًا ولا شرابًا / ولا نومًا ولا مأوى من المطر؛ ولا خشبة عائمة للرجال الذين يغرقون / ويطفون ويغرقون ويطفون ويغرقون مجددًا.» ورغم ذلك، تختتم ميلاي بقولها: «لا أظن أنني سأستبدل ذكرى الحب بالطعام.»
وأنا أيضًا لا أظن أنني سأفعل، على الرغم من أنني أحيانًا أقلق من أن تُضطرني الظروف إلى ذلك. ومعيار التقدم الأخلاقي لأي مجتمع هو مقدار ما يُطلب من أفراده للتضحية بالكماليات، كالحب والشعر، من أجل الضروريات. وإن كان هذا هو المقياس، فإن شكل حياتنا الحالي لم يتقدم كثيرًا عن ماضيه.
العدالة الاقتصادية شرطٌ لا بد منه للإفراط، لكنها في ذاتها ليست إفراطًا. إنما المساواة الاقتصادية كما تبدو في أكثر نماذجها، تَعِدُ كل فردٍ بما يستحقه، ولا تمنحه أكثر من ذلك. الفائض يُنظر إليه بشيء من الريبة، وحتى تلك الفوائض القليلة المسموح بها تُلزم بتبريرات صارمة. ففي كتاب نظرية العدالة لجون رولز، الذي يُعدّ من أعظم الأعمال في فلسفة المساواة السياسية، بل ربما هو المفضل عندي، نجد تكرارًا واضحًا لفكرة أن الفوارق في الثروات والامتيازات التي يمكن قبولها هي فقط تلك التي تفيد أكثر الفئات حرمانًا في المجتمع. فإن دفعنا لأخصائي الأعصاب أجرًا أعلى من المعلم، يجب أن يكون ذلك لصالح الفئة الأكثر تهميشًا، وهي الفئة التي يُعرِّفها رولز بأنها الأقل حظًا في الثروة والفرص. وهذا يُفضي بنا إلى أنه من غير الممكن، وفقًا لهذا الفهم، أن نبرر دفع رواتب أعلى بكثير لأخصائيي الأعصاب على حساب المعلمين.
مبدأ الفرق، كما أطلق عليه رولز، يبدو وكأنه مطلب بعيد المنال. فكيف لنا أن نُخصص كل شيء بمعيار صارم كهذا؟ وهل ينبغي أن نضع الجميع في منزلة واحدة، ونُقيم كل عملٍ فني بالمساواة، إلا إذا أفاد الاختلاف الأقل حظًا؟ لكن لحسن الحظ، في المجتمع المثالي الذي تخيله رولز، تقتصر هذه المبادئ الاقتصادية على المؤسسات العامة. تُفرض الضرائب لتحقيق المساواة، لكن يُسمح لنا في حياتنا الشخصية بأن نحب أو نكره، دون الخضوع لمقاييس العدالة. فبينما تسود النسبة والنظام في الشؤون العامة، تظل المشاعر في حياتنا الخاصة متحررة وعفوية. وهنا، يُسمح لنا بالتمييز وفقًا للذوق الشخصي، نفضّل بعض الأعمال الفنية على غيرها، ونختار أصدقاءً أو شركاء وفقًا لمزاجنا الخاص.
إن هذا الفصل بين العدالة العامة والمشاعر الخاصة هو جوهر نظرية رولز. فالمؤسسات يجب أن تُلزم نفسها بالحياد والعدل، لكن حتى أشدّ دعاة المساواة السياسية يدركون أن المحاباة نوعٌ من ضروريات القلب. وفي عالمٍ تغلب فيه المساواة المطلقة، لن يكون هنالك مكانٌ لتفاوتات النسب وسحر التفرد و الإبداع الفائق، كالروايات الطويلة المدهشة أو الأعمال الفنية التي تحمل في طياتها مبالغات ممتعة. ولن يكون هناك مكانٌ للحب، الذي هو في حقيقته شكل من أشكال التحيّز المثالي.
ولكن، ويا للأسف، قلبنا الموازين. ففي حين تبقى الفجوات الاقتصادية قائمة كما هي، أصبحنا مهووسين بالمساواة في الحب والفن، نبحث عن النظام والتوازن في كل زاوية من زوايا حياتنا. في رواية سالي روني محادثات مع الأصدقاء، يعبر أحد الشخصيات عن شكوكه تجاه فكرة العلاقة الأحادية، لأنها تستوجب تفضيل شخص على آخر. وفي تويتر، حيث تُقطر الثقافة إلى أكثر أشكالها فجاجة، نجد 'مدربة الصحة النسوية' ميليسا أ. فابيلو تقدم قالبًا يمكن استخدامه عندما لا نملك الوقت الكافي لأصدقائنا، وكأننا موظفون بيروقراطيون مكلفون برفض الطلبات بدلًا من أن نكون أصدقاء يفضلون أحبّتهم. تقول الرسالة:
مرحبًا! أنا سعيد لأنك تواصلت. لكنني مشغول حاليًا / أساعد شخصًا آخر في أزمة / أتعامل مع أمور شخصية. لذا لا أستطيع تقديم الدعم المناسب الآن. هل يمكننا التحدث لاحقًا / هل لديك شخص آخر يمكنك التحدث إليه؟
وفي الفنون، يظهر هذا الالتزام بالمساواة في العبارة الشهيرة: دع الناس يستمتعون بالأشياء. ففي أحد الرسوم الهزلية، يضع شخص إصبعه على فم الآخر قائلاً: ششش. دع الناس يستمتعون بالأشياء. وتُعاد هذه العبارة كلما انتُقد عمل فني محبوب شعبيًا. كأنما تحمل تهديدًا مبطنًا: دع الناس يستمتعون – وإلا!
حين كتب الناقد مارشال فاين مراجعة سلبية لفيلم The Dark Knight Rises، مما أفسد تقييم الفيلم الكامل على موقع Rotten Tomatoes، تلقى تهديدات بالقتل أجبرت الموقع على إغلاق التعليقات. كما أشار الناقد كريستيان لورنتزين في مقاله الشهير، أحب هذا أو مت، إلى الحالة التي وصلنا إليها في تقدير الفنون.
قد يُفهم من العبارة الشهيرة أنها تترك المجال لتكون الأشياء التي يستمتع بها الناس سيئة. ربما يعترف معجبو The Dark Knight Rises بعيوبه، وكل ما يطلبونه هو أن يُسمح لهم بالاستمتاع به. لكن غالبًا ما تُستخدم هذه العبارة لتوحي بأن جميع الأعمال متساوية، وأن أي محاولة للتفريق بينها هي شكل من أشكال الاستعلاء. كما كتبت دانييل بينكس في مجلة Kill Your Darlings، فإن الادعاء بأن أدب الشباب أقل نضجًا من أدب الكبار يُعد استعلاءً أدبيًا نخبوياً. وتضيف بينكس أن افتراض نضج البالغين أكثر من المراهقين هو أيضًا استعلاء. فالمراهقون، و البالغون، و الأفلام التجارية الرائجة – من ذا الذي يمكنه أن يحدد أيها أفضل من الآخر؟
ما الغاية من تلك الإشارات غير المقنعة التي تشير إلى المساواة؟
هل نغدو أطفالنا أندادًا لنا حين نقرر ذلك؟ وهل تزول الفروق الاجتماعية حين نتظاهر أن أغاني الأوبرا الكلاسيكية تعادل أغاني الراب الحديثة؟ إن الشعر لا يُحدث شيئًا، فهل ترك الناس يستمتعون بما يرغبون أكثر جدوى في ذلك؟
ربما يكون السعي لتحقيق المساواة في حياتنا الخاصة مجرد تعويض عن الإخفاق المرير الذي مُني به اليسار في تحقيق المساواة في الموارد والقوة السياسية في المجال العام. وكما كتب الناقد فيل كريستمان: «بعد أن هُزمنا في المعركة الاقتصادية أمام النخب السياسية والاقتصادية، نواصل الاحتفال مرارًا بانتصارنا الرمزي على نخبة ثقافية متخيلة تزدرينا لمجرد مشاهدة مسلسل 90 Day Fiancé. ما لا نستطيع تحقيقه في واقع الحياة، نعوضه برمزية متكررة، حتى تتحول إلى نوع من العصاب.» ديمقراطية الثقافة تلك ما هي إلا جائزة ترضية تُمنح بدلًا من نظام سياسي يتيح للناس تحكمًا فعليًا في مصائرهم. لا تكتفي تلك الديمقراطية بعدم تحقيق تغيير ملموس، بل تعمّق شعورنا بالعجز، وتقرّ بشكل صارخ أننا عاجزون عن تبديل هذا الواقع المادي غير المتوازن.
وربما يكون هذا الهوس بالمساواة في كل شيء، عدا الثروة، نابعًا من خلط مفاهيمي بين فكرتين متمايزتين: المساواة في الفرص والمساواة في النتائج. في المجالين الفني والعاطفي، المساواة التي ينبغي تحقيقها هي في الوصول: أن تكون لكل إنسان فرصة حقيقية لصنع الفن (وهو ما يتطلب تعليمًا وموارد) وفرصة حقيقية لأن يكون محط اهتمام عاطفي. ولا ينبغي أن يُحرم أحد من هذه الفرص لمجرد أنه لم يحظ بحظ جيد في مولده. ومع ذلك، حتى لو كنا منفتحين على التفاعل مع أفراد من مختلف الأعراق والطبقات، فهذا لا يعني بالضرورة أننا سنحب الجميع (ولا يُفترض أن نفعل ذلك)، تمامًا كما أن توفير فرصة الوصول إلى التعليم الجمالي للجميع لا يعني أن الجميع سيصبحون فنّانين أو نقّادًا عظماء. هناك ما يكفي من الأسباب الأخلاقية والجمالية للتمسك بالمساواة في الفرص دون الحاجة للانغماس في مبدأ دع الناس يستمتعون بما يشاؤون.
أما مقالي، فلا يعارض المساواة في مجملها، ولا يعترض على الجهود التوزيعية في المجال الاقتصادي. بل إنه يهدف إلى دعوة متأنية لإعادة التفكير في حدود المشروع المساواتي—الحدود التي تضمن بقاء المواقف السياسية في نطاقها دون أن تتسلل إلى المجالين الجمالي والعاطفي. فلا شك أن تحقيق العدالة الاقتصادية سيعزز جودة الفن، كما أشار ماركس وشيلر؛ إذ ستتقلص العقبات أمام الموهوبين، وستُتاح لهم فرص أفضل لصقل مواهبهم. كذلك، ستتحسن الثقافة الجمالية إذا حظي الجمهور بالوقت والتعليم اللازمين لصقل ذائقتهم. لكن العكس ليس صحيحًا: فدمقرطة الثقافة لم تفلح في تحسين السياسة. بل إنها تركت الفوارق الجوهرية على حالها، وحَرَمتنا من الترف الذي يليق بنا ككائنات بشرية.
إنما عدم المساواة بين الأفراد هو، في جوهره، غاية المساواة الاقتصادية.
وكما كتب رولز في مستهل عمله العظيم: «العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية، كما أن الحقيقة هي الفضيلة الأولى لأنظمة الفكر.» فالعدالة، التي تعني عند رولز المساواة الصارمة، هي فضيلة تُنسب إلى المؤسسات الاجتماعية، لكنها ليست فضيلة تنطبق على كل شيء، تمامًا كما أن الحقيقة فضيلة تليق بأنظمة الفكر لكنها لا تنطبق على الخيال. وعلى نحو مماثل، العدالة ليست فضيلة العلاقات العاطفية، أو الثقافة الجمالية، أو ديكور المنازل، فهذه جميعها لا تخضع لمفهوم المساواة.
ويمكن توضيح هذه الفكرة بمثال من الليبرالية، التي لا أعني بها تلك الأيديولوجيا المرتبطة بحرية السوق، بل الفلسفة السياسية التي تنادي بأن تبقى الدولة محايدة تجاه التصورات المختلفة للحياة المثلى. فالدولة الليبرالية تمنح مواطنيها الوسائل لتحقيق رؤاهم، لكنها لا تفرض عليهم رؤية معينة. والهدف من حياد الدولة ليس أن يصبح الأفراد بدورهم محايدين، بل أن يتمكنوا من تشكيل مجتمعات تتفق مع قيمهم الخاصة. وبالمثل، فإن غاية المساواة السياسية ليست سوى تمكين الأفراد من تحقيق تفردهم.
إن تحقيق العدالة الاقتصادية يلبي احتياجاتنا الأساسية، ويفتح أمامنا فضاءات من الرغبة، والترف، والإفراط. فالمساواة الاقتصادية شرط أساسي للنجاح في العلاقات الحميمة والإبداع الفني، لكن كلاهما يؤدي حتمًا إلى التفاوت. ولعلنا لا ننجح في حب الجميع أو تقدير أغانى الراب مهما حاولنا، ولكن الأهم أن المساواة الجمالية والعاطفية، إن وُجدت، ستكون بائسة. فالكائنات التي تعني لها الحب والفن شيئًا هي تلك التي تمتلك تحيزات ونفورًا، وهذه هي طبيعتها.
إن حياد النظرة المساواتية هو ما أراد رولز أن يُبرزَه ويُجسّده في تجربته الفكرية الشهيرة التي أسماها الموقف الأصلي. وفي هذا الموقف، نُطالب بتخيّل أنفسنا نصوغ نظامًا سياسيًا جديدًا، دون أن تكون لنا معرفة مسبقة بموقعنا في هذا النظام. إننا، في هذا التخيل، متساوون لأننا قد تجرّدنا تمامًا من كل ما يميزنا لنصبح في حالة من التماثل المطلق.
ولكن لا يُفهم من هذا أن التجربة الفكرية غاية في ذاتها، بل هي وسيلة فلسفية نافعة. إذ تساعدنا على بناء نظام سياسي عادل، لا يُقدّم الامتيازات لنوع من الناس على حساب نوع آخر. ولكن هذه الوسيلة، مهما بدت عظيمة، لا تصلح أن تمتد إلى بقية مناحي حياتنا. ذلك لأن الشخصيات التي تتخذ الموقف الأصلي ليست سوى بدائل رمزية، أما قيم كالحب والفن فلا يمكن أن تكون ذات معنى إلا عندما تُوجَّه إلى إنسان بعينه، في ظروفه الفريدة.
وإن الأشياء، كما نراها، لا تزال صغيرة جدًا أمام أعيننا لأننا لسنا إلا كائنات ضئيلة، لا نستطيع أن نكون سوى شخص واحد في لحظة واحدة.
من هنا، تتسع الفجوة بيننا وبين ما نحن لسنا عليه. فنحن لسنا طبقًا من المعكرونة، ولسنا حوتًا يسبح في أعماق المحيطات، ولسنا كل كلمات اللغة التي نعبر بها. لكن الأكثر إيلامًا من ذلك كله أننا لسنا بعضنا البعض. وقد وصف شاعر من أولئك الذين يبيعون لنا أوهامًا هذه الحالة، إذ قال عن عاشقين اجتاحهما الشغف: «إنهما يحاولان أن يصبحا كائنًا واحدًا، / لكن شيئًا ما يقف حائلًا بينهما.» إن عجزنا عن أن نكون بعضنا البعض، وعجزنا عن أن نكون ما نستهلكه أو أن نحتوي العالم بأسره، أو حتى نرتفع بما يكفي لنراه بكليته، هو مصدر خيبة أمل لا نهاية لها. بل إنه عذاب لكل من يتوق إلى أن يحيى حياة تمتلئ بالشغف والتجربة.
وهذا الصغر الذي نحمله في داخلنا هو في الوقت ذاته سبب جوعنا الذي لا ينطفئ.
فمن لم يكن له كل شيء، يسعى دائمًا ليحصل على المزيد. وإن منظور العدالة، على عظمته، يقتصر على كونه الإطار الذي تُؤدَّى من خلاله الواجبات السياسية. لكنه ليس، بأي حال، نقطة الانطلاق التي علينا أن نختارها إذا أردنا أن نبحث عن تحقيق حلم جنة وفرة على الأرض.
مترجم بتصرف من كتاب All things are too small