«استبدادُ المهام الصغيرة» و«الوفاءُ للمهام اليومية» عبارتان قصيرتان، لكنهما تفتحان أبوابًا على عالمين متباينين من وجوه الحياة، بل على شكلين من الوجود لا يكاد أحدهما يشبه الآخر. وما كنتُ لأنتبه إلى هذا الفرق الغريب لولا أن قارئًا نبهني إليه في تعليق ذكيّ، فذكّرني بما ورد من اقتباسين اثنين، كلاهما على قصره شديد الدلالة.
أما القول الأول، فهو لتيم وو: «استبداد المهام الصغيرة». وقد جاء في سياق حديثه عن تلك التقنيات التي يُقال إنها «موفِّرة للوقت»؛ أي أنها تعين الإنسان على إنجاز أعماله بسرعة، ولكنها تخفي وراءها عبئًا جديدًا. كتب تيم وو قائلًا:
المشكلة أنّه كلما سُهِّلت مهمة فردية، طالبنا أنفسَنا والآخرين بإنجاز المزيد. فبدلًا من عدد قليل من الأعمال الكبيرة، مثل كتابة رسائل طويلة، أصبحنا نغرق في سيول من الأعمال الصغيرة، كإرسال مئات الرسائل الإلكترونية. وهكذا أصابتنا لعنةُ استبداد المهام الصغيرة: فهي يسيرة في ظاهرها، لكنها إذا اجتمعت قَمعَت الإنسان وأثقلته.
فانظر وتأمّل، كيف يتحول إنجاز المهام ـ وهو في ظاهره أمر مشروع ـ إلى ضرب من الاستبداد، إذا جُعل رهينًا لمنطق التقنية الموفِّرة للوقت. إنه استبداد خفيّ، لا يعلن عن نفسه، بل يتسلّل إلى يومك شيئًا فشيئًا، حتى يُحكم قبضته عليك.
وأما القول الثاني، فهو لألبرت بورغمان: «الوفاء للمهام اليومية». وقد أورده في حديثه عن المعنى الاجتماعي العميق الذي كان يكتنف رعاية الموقد في البيت؛ والموقد هنا هو موضع النار في الدار الذي يبعث الدفء ويجمع الأهل حوله. قال بورغمان:
كان الموقدُ مركزًا للبيت، قلبًا نابضًا يجمع عمل العائلة ولهوها معًا. برودته تعلن صباحًا جديدًا، وانتشار دفئه يبشّر ببدء النهار. يوزّع على أفراد العائلة أدوارًا تُحدّد مكانتهم في البيت: الأم تُشعل النار، الأطفال يملأون صندوق الحطب، والأب يقطع الخشب. وهكذا وفر للعائلة كلها مشاركةً منتظمة وملموسة مع إيقاع الفصول المتغيّرة بين بردٍ قاسٍ ودفءٍ معزٍّ، مع رائحة دخان الحطب، وجهد النشر والحمل، وتعلم المهارات، والوفاء للمهام اليومية.
وما أصدق هذا الوصف، وما أعمق معناه! فإنك إذا تأملته، أدركت كيف كانت المهام اليومية تصوغ نسيجًا من الحياة المشتركة، لا قيدًا على الروح، بل ضربًا من الوفاء؛ لا عبئًا ثقيلًا، بل شعورًا بالانتماء والمشاركة.
ولم أكن قد تنبّهتُ إلى هذا التعارض بين العبارتين حين خططت مقال نشرته حول ذلك أول مرة، ولا حين أعدتُ النظر فيه. غير أنّ تعليق ذلك القارئ جذبني فجأة إلى عبارة بورغمان، فهناك فقط أبصرتُ الفرق بينهما، أو قل بين صورتين من صور العيش، فإذا فيه من الدلالة ما يفتح باب الفهم لأصل ما نعانيه من إرهاقٍ وفتور، وما نشعر به من ضيقٍ وقلة رضا.
وها أنا أتصوّر الآن أنّ المهمة الواحدة قد تبدو في حال استبدادًا وقهرًا، وقد تُرى في حال أخرى وفاءً وانتماءً. فقد يحسّها امرؤٌ كما أحسّها تيم وو: عبئًا متسلّطًا يرهق الروح ويستعبدها، ويذوقها آخر كما ذاقها بورغمان: قربًا دافئًا، ومشاركة تُشعره بالانتماء. وأنا من جهتي لا أحب أن أُسلم نفسي لهذا «الاستبداد الصغير» الذي يثقل الروح بطلبات لا تنتهي، ولكني في الوقت نفسه أرجو أن أحيا حياةً أستطيع أن أقول فيها، صادقًا غير متكلّف، إنني وفيتُ بمهامي اليومية كما يفي المرء بعهد كريم. غير أنّ هذا مشروط بشرط واحد: أن تكون هذه المهام مما يُثير في النفس بالفعل معنى الوفاء، لا معنى القيد.
فما الذي يُصنع به الفرق إذن؟ سؤال مشروع لا بد من جواب.
ولعلي أقول: إن ثمة طريقين اثنين للتفكير في هذا الفرق؛ أحدهما من خارج النفس، والآخر من داخلها. أو قل: الأول يتصل بالنظام الذي يحيط بنا ويضغط علينا من الخارج، والثاني يتعلّق بكيفية تلقي هذا النظام وتمثّله في داخل نفوسنا.
فأما من جهة الخارج، فإننا نعيش ـ شئنا أم أبينا ـ في هياكل اجتماعية ومادية تشدّنا شدًّا إلى ذلك المنطق «التكنو-اقتصادي»، أي ذلك التصور الذي يرى أن التجربة كلها يجب أن تُحسَّن، وأن تُجعل أسرع وأسهل وأكثر كفاءة. ولئن اختلف الناس في شؤون كثيرة، فهم غالبًا متفقون على أمر واحد: أن ما أمكن إنجازه في وقت أسرع وجب أن يُنجز كذلك، وما أمكن اختصاره لزم أن يُختصر.
وليس هذا أمرًا وليد الساعة، ولا هو ابن يومه، بل هو قديم له جذور في المجتمعات، تضرب في الزمن وتتشعّب. وقد أشار إليه، قبل نصف قرن، ناقد اجتماعي يُدعى إيفان إيليش، فقال في وضوح لا لبس فيه: إن الناس لا يحتاجون إلى أدوات تعمل عنهم، بل إلى أدوات يعملون بها. ورأى، في أسى ممتزج بحكمة، أنّ قرنًا كاملًا مضى ونحن نحاول أن نجعل الآلة تقوم مقام الإنسان، ثم نُدرّب الإنسان نفسه على أن يعيش في خدمة تلك الآلة.
وفي ظل هذه الافتراضات الكامنة ـ وهي افتراضات تغلغلت في النفوس كما في المجتمع، وسرت في الفكر كما في العمل، حتى صارت تُعَد من المسلَّمات التي لا يُناقشها أحد ـ يسهل أن نفهم لماذا كانت الطريقة الأيسر إقناعًا، والأكثر انتشارًا، لتسويق التقنيات الجديدة في القرن الماضي: أن تُعرض على الناس في ثوب «الوسيلة الموفِّرة للوقت».
ويحسن، بل يجب في هذه المرحلة، أن أبيّن أمرًا مهمًّا؛ والوقت الآن أوان هذا البيان. فقد يظنّ بعضهم أنني أعترض من أصل الفكرة على «توفير» الوقت أو الجهد. وليس ذلك ما أردت، ولا ما قصدت. فإني لا أزعم، ولا يصح لأحد أن يزعم، أنّ التوفير باطل في كل حال، أو أنّ تعجيل الأعمال مذموم على إطلاقه. كلا. وإنما موضع الإشكال أننا ما عدنا ننظر إلى هذا التوفير بعين نقد ولا بميزان تمييز، بل تلقّيناه تلقّي المسلَّم، وتعاملنا معه تعامل الضرورة التي لا تُناقش. فصرنا نقبل الوعد الذي يُعرض علينا، وعد التوفير، من غير أن نفكّر فيه قليلًا ولا كثيرًا: أيّ وقت ينبغي أن يُقتطع؟ وأيّ جهد يصح أن يُختصر؟ وما الذي يُطلب لذاته، وما الذي يُقصد لغيره؟
ثم إن هنالك سؤالًا آخر أعمق غورًا، وأشد جوهريةً: لأجل ماذا نوفر الوقت؟ سؤال يُثبّط المجتمع عن طرحه، لا بلسانٍ صريح، بل بإيحاء صامت. كأنما الجواب المضمر، الذي لا يُقال، هو: «لكي نستمتع بما تُلقيه إلينا الرأسمالية الحديثة من سلع وخدمات». وكأنما هذا هو النداء الأعلى في أذن الإنسان المعاصر، وكأنما هذه هي السعادة الحقيقية يُراد له أن يسعى إليها. غير أن هذا القول لا يُصرّح به تصريحًا، ولا نحن، في الغالب، نجرؤ أن نسائل أنفسنا عنه على بيانه.
بل إن الشرط الذي تُقدَّم فيه تلك التقنيات أشد غموضًا وأوسع عمومًا. فما يُسمّى «إقناعًا» لا يتم غالبًا بالحجة المباشرة، بل بطريقة العرض نفسها: كيف تُصوَّر المهام حين تُبتكر آلة أو يُصمَّم نظام يؤديها عن الإنسان. فالفعل الذي كان يُعدّ عملًا كريمًا ذا منزلة، يُصوَّر فجأة على أنّه كدحٌ مُرهق. والجهد الذي كان يُرضي بعض النفوس، يُقدَّم على أنه غير خَلّاق، أي غير مُثمر بما يكفي. ثم يُغرس في النفس شعور دقيق غامض: أن بناء التقنية الجديدة، بما فيها من سرعة وكفاءة، أو تفويضها للقيام بأعباء الحياة، هو مفتاح لمستوى أرقى من الوجود. هنالك فقط، كما يُقال لنا، نصل إلى «ما يهم حقًّا». غير أن هذا «المهم» لا يُفسَّر لنا، ولا يُبيَّن، بل يُترك غامضًا، مبهَمًا، كي يتوهّم كل امرئ أنه هو الذي اختار غايته، وأنه لم يفعل سوى استعمال أداة جديدة ليحقق رغبته القديمة.
ولكن الحقيقة ـ وهي ما يُراد لنا أن نغفل عنه ـ أنّ هذه هي الوسيلة التي يُقنَع بها الإنسان أن يتخلى عن الحياة ذاتها. نعم، التخلي عن الحياة. وقد قال لويس مومفورد، في سنة 1964، قولًا ما زال اليوم قائمًا بمعناه:
إن الذريعة المرفوعة، ذريعة توفير الجهد، تخفي غاية أخرى، هي إزاحة الحياة نفسها، أو قل: نقل خصائص الحياة إلى الآلة والجماعة الميكانيكية، مع الإبقاء على الحد الأدنى من الكائن الحي ليظل تحت السيطرة والتوجيه.
فتأمّل، وانظر بعين البصيرة: إلى أيّ مدى تبلغ التقنية إذا تُركت بغير مساءلة ولا حساب؟ فإذا بنا نُساق إلى نظام لا يكتفي بأن يُمكّنك من «توفير الوقت»، بل يُلزمك به إلزامًا، ويعيد صياغة حياتك وفق قانون التوفير القسري. هناك، وتحت هذا النظام، وُلد «استبداد المهام الصغيرة»؛ النظام الذي يرفع راية الكفاءة، ويُغرينا بوعد وقتٍ موفَّر لغاية أعلى. غير أنّ هذه الغاية، كما ترى، غامضة ملتبسة، كأنها طيف حلمٍ يتبدّد ولا يتحقق.
وفي هذا النظام، لا تُوزن قيمة الإنسان بما هو كائن حي ذو روح وعقل، بل بما يُستهلك من جهده أو بما يُنتج بيديه، كأنما هو موقعٌ معدّ للاستهلاك الآلي أو أداة للإنتاج حسب الطلب. غير أنّ هذا النظام لا يرضى بالقليل، ولا يملأه الشبع، لأنه في جوهره آلة، والآلة لا تعرف غاية إلا أن تدور وتستمر. إنه مُحرك للرغبات، يوقظها في الصدر، لكنه لا يملك إطفاءها، بل كلما لبّى شيئًا منها زاد العطش إلى ما ليس عنده، وأوقد الشهوة إلى ما لا يقدر على تقديمه.
وقد وصف لويس مومفورد هذه الحال بلسان نافذ فقال:
الصفقة التي يُراد منا القبول بها شبيهة برشوة رائعة؛ إذ يُقال لكل فرد في ظل العقد الاجتماعي ـ الذي يجمع في صورته بين الديمقراطية وفي حقيقته الاستبداد ـ إن له أن يطلب كل ميزة مادية أو لذّة فكرية أو عاطفية قد يشتهيها، من مأكل ومأوى ومركب سريع واتصال عاجل وعلاج حاضر ولهو وتعليم. وهي أمور لم تكن متاحة من قبل إلا لصفوة قليلة. ولكن الشرط الوحيد: ألا يسأل المرء عمّا ليس في يد النظام، وأن يقبل بكل ما يُعرض عليه بعد أن يُعالج ويُصنّع ويُوحّد ويُوزن بالكمّ الذي يفرضه النظام لا الذي يطلبه الفرد. فإذا اختار الإنسان النظام، لم يبقَ له بعد ذلك خيار آخر. وإن سلّم حياته من المنبع، أعادته التقنيات الاستبدادية مقطّعًا على قدر ما يمكن أن يُقاس ويُصنّف ويُستعمل ميكانيكيًا.
وهذا النظام الخارجي، الذي يُحكم قبضته علينا من حيث لا نشعر، لا يقف عند ما نراه من تنظيم وتقنين، بل يتسلل إلى باطن النفس ويستولي على الوجدان، فيغرس فينا صورة داخلية تشبه صورته الظاهرة. فنشرع رويدًا رويدًا، من غير وعي، في النظر إلى تجاربنا الذاتية لا كما عشناها أو أحسسناها، بل كما يُمليها علينا المنطق «التقني-الاقتصادي» الذي يُهيمن على عالمنا المحيط.
فنظن ـ وقد صار الظن كأنه حقيقة لا تُناقَش ـ أنّ قيمتنا الإنسانية تُقاس بما نُنتج ونُنجز. فلا نرى أنفسنا على ما نحن عليه من جوهر، بل على ما نُتمّ ونصنع. ونقع، بذلك، في حرب مع الزمن، نطارده كأنه عدوّ يجب قهره. وننفر مع الأيام من الراحة، كأن الراحة خطيئة أو عيب. ثم ننسى شيئًا فشيئًا كيف نلعب، وأعني باللعب ذلك الصفاء العفوي الممزوج بالبهجة والحرية. وتتحول علاقاتنا، التي خُلقت لتكون وُدًّا وصداقة أو محبة وعِشرة، إلى أدوات تُستعمل لبلوغ غايات.
ويغدو العالم ـ على حد تعبير هارتموت روزا في عبارة دقيقة لافتة ـ سلسلة من عُقد ونقاط صراع، كلها أمور لا تُعاش لذاتها، بل ينبغي أن «تُسوى وتُنجز وتُحَلّ ويُتخلص منها». وفي هذا الطراز من الحياة نظل نُساق إلى وعد «توفير الوقت»، ولو كان وعدًا أجوف مخادعًا، وتبقى حياتنا أسيرة لطغيان المهام الصغيرة. فلا عمل نؤديه حبًّا فيه، ولا جهد نبذله لذاته، بل كل ما نصنعه يُؤدى بصفته وسيلة إلى غيره.
وما ذلك كله إلا لأن النظام الذي يحكم أعماقنا لا يختلف عن النظام التقني في ظاهرنا؛ بل هو ظله وامتداده وسلطانه. نظام تحكمه أصنام، لا تعبأ بسعادتنا ولا براحتنا. أصنام لا تُعبد بأسمائها القديمة، بل تُستدعى بأسماء جديدة براقة: «الإنتاجية»، و«التحسين»، و«الكفاءة»، و«الربح».
فالسؤال – وهو سؤال لا يليق بنا أن نهرب منه – كيف السبيل إلى ردِّ هذا الطغيان؟ وكيف نُقبل بدلًا منه على نمط من العيش لا يكون ترفًا في الخيال ولا ضربًا من المحال، بل أمرًا معقولًا، كما سماه ألبرت بورغمان «الوفاء للمهام اليومية»؛ أي أن ننهض لشؤوننا البسيطة ونهبها ما تستحقه من عناية، فنجد في صغائر العمل لذّةً كما يجد الزارع في حرث أرضه، والراعي في رعاية قطيعه.
وأنا ذا أطرح بعض الرؤى، وأمدُّ يدي إلى تأملاتكم، فدونكم باب التعليق مفتوحًا، أدعوكم أن تشاركوني الرأي والكلمة.
وأحسب أن أول الطريق – بل بدايته التي لا يُستغنى عنها – أن نُعلن سلسلة من الرفض: رفضًا لذلك الخضوع الأهوج للأصنام التي تتربع في نفوسنا، وتفرض سلطانها على عقولنا. وربما لا نملك أن نُسقط هذه الأصنام من عليائها، ولا أن نقتلعها من جذورها، غير أننا – ولا ريب – قادرون على أن ننزع عنها سحرها الذي يخطف خيالنا الأخلاقي، فنُدرك أنّ وعودها خواء، وأن بريقها خديعة، وأن حقيقتها ليست إلا محاولة جريئة، بل وقحة، لمواءمة أهوائنا مع أهداف نظام لا يرعانا ولا يرى فينا إلا أداة من أدواته.
فإذا انكشف لنا ذلك، انطفأ بريق الوعد بتوفير الوقت، وسقطت قيمه التي نُسجت حوله حتى غدت كأنها بداهات لا تُمس. وحينئذٍ، كما عهدتموني، أحثكم أن تسألوا تلك الأسئلة التي يراها الناس غريبة أو «ساذجة»، وما هي بساذجة: لِمَ يجب أن أكون منتجًا؟ ولِمَ يُطلب مني أن أُنجز سريعًا؟ وهل الكفاءة خير دائمًا؟ قد تسمعون جوابًا مقنعًا، وقد لا تجدون، لكن مجرد طرح السؤال يفتح بابًا على عالم أكثر عمقًا وتشابكًا، ويستدعي فكرًا ناقدًا وحذرًا لا يليق أن نهمله.
ثم يأتي الأمر الثاني، وهو أن نُزلزل ذلك الاعتقاد الذي سرى في حياتنا خفيةً حتى استقرّ، وهو أن «الكيفية لا وزن لها»، وأن العبرة بالنتيجة وحدها. وهذا ظنّ ليس بريئًا، لأنه يُغذّي الإيمان بأن كل مرحلة من مراحل العمل يمكن الاستغناء عنها أو أتمتتها دون أن يختل المشروع، كأنما جوهر العمل في ثمرته فقط، لا في الطريق إليه، ولا في المعنى الذي ينشأ عن بذل النفس فيه.
وقد يكون هذا الظن صادقًا في حالات قليلة، ولكن بعيد أن يكون قاعدة عامة. فالنظام التقني-الاقتصادي لا يعترف إلا بالنتائج التي تُحسب، والمخرجات التي تُقاس. أما الذي يهمّ الإنسان حقًا، والذي يمنح حياته معنى، فإنه يكمُن في الكيفيات التي يَسلكها نحو غايته: في الطريقة التي يشارك بها، وينغمس فيها، ويصوغ بها أيّامه.
وأحسب – بل أتيقن – أن أعظم ما يُغفل في زمننا هذا، ونحن غارقون في الحديث عن «العمل المؤتمت» و«الذكاء الاصطناعي»، هو العنصر الأثمن الذي لا يُقاس بآلة ولا يُصنّف في جدول، وهو: الاهتمام. ذاك البذل الصادق من الروح، الذي يجعل حتى أبسط المهام ذات معنى، ويحوِّل العمل من عبءٍ ثقيل إلى حضورٍ حيٍّ في مجرى الحياة.
الاهتمام – لا غيره – هو الذي يسكب في العمل روحًا ومعنًى. به يُولد الإدراك الصادق للعالم والناس، وبه تتحوّل مشاركتنا في الحياة من أداءٍ باردٍ للواجب إلى عيشٍ حقيقي، فيه الدفء والامتلاء.
غير أنّ ما يُعرض علينا اليوم بأسماء براقة كالأتمتة، والاستعانة بمصادر خارجية، والأدوات الموفِّرة للوقت، يحمل وعدًا غامضًا بالحرية. ولكن تلك الحرية الموعودة ليست حريةً في حقيقتها، بل انفصال عن الاهتمام، وتخلٍّ عن المشاركة في عالمنا ومجتمعاتنا، وتراجع عن التفاعل الحيّ الذي يمنح وجودنا نكهته ومعناه.
بهذا الوعد الكاذب بالتحرر، نقع في شَرَك طغيان المهام الصغيرة، إذ نرضى أن نرى تفاصيل حياتنا اليومية وعلاقاتنا البسيطة كأنها عقبات في طريق غايات كبرى بعيدة المنال: كالإبداع، أو الترفيه، أو العافية، أو ما يسمونه "تحقيق الذات". ولكن حين ننقاد لهذا الظن، لا نخدم هذه الغايات في حقيقتها، بل نخدم – من حيث لا نشعر – أوامر النظام وحده، ذاك النظام الذي لا يريد منّا إلا أن نستهلك ونُنتج، إلى غير نهاية.
وفي ظل هذا النظام الذي يلاحقنا بمصطلحاته وقيمه في كل حركة وسكون، يكون أشرف ما يمكن أن نصنعه – صدقًا لا هزلًا – أن نُضيع الوقت! نعم، أن نضيّع الوقت، لا عبثًا ولا لهوًا أجوف، بل عن وعي واختيار. أن نُبطئ خطانا حين يدفعنا الجمع إلى الإسراع، أن نُعرض عن نداءات القياس والتقييم، أن نُغلق آذاننا عنها، وأن نستمتع – دون وجل – بعدم الكفاءة.
نعم، الاستمتاع بعدم الكفاءة! كأنها حرية مكتسبة، أو حق إنساني منسيّ. ولْنستحضر هنا ما قاله صديقي إيفان سيلينجر يومًا: "الجهد هو عملة الاهتمام". وما أصدق قوله! فالجهد إذا خرج من القلب لا يُخزَّن ولا يُدَّخر، بل يُبذل في حينه، لأنه صنو حياتنا كما نعيشها ونحسها، مرتبط أشد الارتباط باهتمامنا.
ولعل ما عناه بورغمان حين تحدّث عن "الوفاء للمهام اليومية"، لم يكن مجرد التعلّق بالعادة والتكرار، بل شيئًا أعمق، شيئًا يقف نقيضًا صارخًا لطغيان المهام الصغيرة. فالوفاء ليس أداءً ميكانيكيًا، بل علاقة حيّة، قوامها الإخلاص وحفظ العهد وصدق النية.
فهل نستطيع نحن أبناء هذا العصر العجول أن ننظر إلى مهامنا اليومية – مهما صغرت – على أنها عهود؟ عهود مع جيراننا، وأهلنا، وأصدقائنا، بل وربما – وهو الأهم – مع أنفسنا؟ قد يعجز بعضنا عن إدراك هذه الصلة بين الواجب والعهد، لكن إن كان الأمر كذلك، فالسؤال يفرض نفسه بلا مواربة: لماذا نقوم بهذه المهام أصلًا؟
أما إذا قدرنا أن نفسّر تلك الأعمال، وإن بدت ضئيلة أو تافهة، على أنها وسائل للرعاية والحب وحفظ العهد، فآنذاك ينبغي أن نتساءل: هل أداؤها عائق حقًا أمام بلوغ حالة بشرية أسمى؟ حالة يُسمّيها الناس "الإبداع" أو "تحقيق الذات"، لكنها – في كثير من الأحيان – تبقى سرابًا بعيدًا، غامض المعالم؟ أليس من الممكن أن تكون هذه المهام عينَ جوهر إنسانيتنا، والمادة الخام التي تُصاغ منها ذواتنا، لحظة بعد لحظة، ويومًا بعد يوم؟
فإذا كان الاهتمام هو الغاية، والحب هو المقصد، والوفاء بالعهد هو المعيار، فما الذي نربحه – أي ربح – من الاستعانة بوسائط خارجية تُبعدنا عن هذا كله؟ وماذا نجني من التخلّي عن تلك السبل التي نُدعى عبرها إلى أن نرعى، ونحب، ونفي؟
نقل بتصرف عن مدونة theconvivialsociety
إذا أردت أن تُدّعم المحتوى الثقافي المقّدم لك بثمن كوب قهوة فهذا يسرنا كثيراً، فقط اضغط على الزر التالي